من ملفات المخابرات الفلسطينية..الاختراق بقلم:عبدالله عيسى

من ملفات المخابرات الفلسطينية

الاختراق

بقلم:عبدالله عيسى

مقدمة

الهالة الإعلامية التي أحاطت بجهاز المخابرات الإسرائيلية , ولاسيما بالفرع الخارجي " الموساد " المسؤول عن عمليات الاغتيالات للرموز الوطنية الفلسطينية والعربية في بلدان أوروبية وعربية , كانت جزء من الحرب النفسية الموجهة ضد العالم العربي منذ بداية الصراع العربي – الإسرائيلي .

وقد حاولت الدعاية الصهيونية التي تسيطر على جزء كبير من وسائل الإعلام العالمية , ترسيخ عدة مفاهيم في ذهن الإنسان العربي , لخلق حالة من الإحباط والخوف , يسهل معها تنفيذ المخططات العدوانية الإسرائيلية .

وقد أرادت الأجهزة المعادية تحقيق الهزيمة في العقل العربي قبل تحقيقها على أرض الواقع وفى ميدان المعركة فأخذت تروج لفكرة " إسرائيل الكبرى " و

"الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر " وجهاز " الموساد " الغير قابل للاختراق وأقوى أجهزة المخابرات في العالم .

ورغم هذه الدعاية لم تستطع أجهزة المخابرات الإسرائيلية إخفاء فشلها في جولات عديدة . وللتخلص من عقدة الهزيمة أخذت تروج لدعاية تقول " إن أجهزة المخابرات العربية والفلسطينية لم تستطع في تاريخ الصراع تجنيد أي ضابط أو عامل في المخابرات الإسرائيلية .

إلا أن أجهزة الأمن الفلسطينية تقول عكس ذلك وهذه القصة الواقعية , تؤكد بالأدلة كذب الادعاءات الإسرائيلية . وهى قصة تجنيد المخابرات الفلسطينية لضابط إسرائيلي برتبة " نقيب " في جهاز " الموساد " " الاختراق " تروى فصلاً من فصول الصراع الدموي بين أجهزة المخابرات الفلسطينية والموساد انطلق من داخل الأرض المحتلة ليمتد إلى بلدان عربية ولأوروبية , وتدور أحداث هذا الصراع ما بين عامي 1976 , 1988 وصولاً إلى الانتفاضة في الأراضي العربية المحتلة كلها تحكى عن دور أجهزة الأمن الفلسطينية في تصفية العملاء وضباط المخابرات الإسرائيلية في الداخل .

الفصل الأول

ليالي الموساد في نتانيا

كانت طفولته عادية في ظروف عائلية غير طبيعية , فالمال بين يديه و

" الدلال القاتل " خلق منه شخصيات غريبة وشاذة . كان وحيداً لأبويه يعيش في منزل خلا منه الحب والتفاهم , فالخلافات العائلية تتزايد يوماً بعد يوم بين الأب والأم التي تسيطر سيطرة مطلقة وتبعد أي دور للأب في التربية والعلاقة مع الأقارب .

في قرية " قباطيا " وعلى بعد 8 كيلومترات من مدينة جنين جنوباً , عاش أحمد طفولته في عائلة ميسورة تملك الأراضي والسهول الشاسعة في القرية و " قباطيا " ما تزال معقلاً من معاقل المقاومة الوطنية الفلسطينية , شهدت أحداثاً عديدة منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي , وكانت حديث الأهالي ومبعث اعتزازهم وفخرهم قبل اندلاع المقاومة الفلسطينية المسلحة في الأراضي المحتلة . خلال عامي 1947 , و1948 دارت المعارك في كافة أرجاء فلسطين ولكن الهجوم العسكري الإسرائيلي على مناطق جنين وقباطيا والمثلث فشل فشلاً ذريعاً وتوقف عند تخوم " جنين " وسقط عدد من الشهداء في تلك المعارك واقيم نصبا تذكاريا للشهداء في قرية " المثلث " وأطلق عليها اسم " مثلث الشهداء " نسبة إلى الشهداء الفلسطينيين والأردنيين إلى قضوا في تلك المعارك .

بعد إعلان الهدنة اضطر قسم كبير من الشعب الفلسطيني اللجوء إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة بسبب المجازر الجماعية التي تعرضت لها عدة قوى فلسطينية وبفعل عمليات الطرد الجماعي التي نفذتها العصابات الصهيونية بقوة السلاح .

محطة القادمين

وكانت سهول " جنزور " في منطقة جنين محطة للقادمين من " حيفا " وقراها شمال فلسطين المحتلة , وأطلق هذا الاسم على السهول نسبة إلى بئر حفره الأتراك أثناء حكمهم للمنطقة .

استقر اللاجئون الفلسطينيون عدو شهور تحت الخيام , حتى بدا الشتاء ذلك العام , فاجتاحت المنطقة الثلوج واضطر اللاجئون إلى الرحيل إلى مناطق أخرى من فلسطين بحثاً عن مأوى , واقامت لهم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين مخيمات بنيت بمواصفات رديئة للغاية , ولكنها كانت افضل من الخيام على كل حال . وأقيمت هذه المخيمات في مناطق مختلفة في الضفة الغربية وقطاع غزة ولفترة عشر سنوات على أمل أن تجد القضية الفلسطينية حلاً لها إلى مدنهم وقراهم .

وفى 5 حزيران 1967 كان لواء من الدبابات الأردنية يرابط في منطقة " جنين " حيث تصدى للعدوان الإسرائيلي ودارت معركة ضارية لم يستطع الجيش الإسرائيلي التقدم فيها إلا بفعل تدخل الطيران الإسرائيلي الذي حسم المعركة على كافة الجبهات لصالح إسرائيل .

وبعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وتنامى أعمال المقاومة الفدائية ضد الاحتلال , أقامت سلطات الاحتلال في كافة المدن الفلسطينية مراكز ضخمة تشمل الشرطة والمخابرات وحرس الحدود وسجن , وكل مركز يشبه قلعة من قلاع العصور الوسطى .

سقوط عميل

في صيف عام 1968 كان أحمد لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره خرج من منزله في الصباح كسائر الأطفال حتى تقع عيناه على مشهد مخيف . كان يسير في الشارع أمام المنزل رجل في الثلاثين من العمر وكان الشارع خالياً في تلك الساعة . وفجأة اقترب رجل يلف رأسه بالكوفية الفلسطينية , واستل مسدساً وأطلق النار على الميل الذي سقط صريعاً يتخبط بدمائه خلال لحظات اختفى

" الفدائي " بينما وقف أحمد مسمراً في مكانه والعرق ينصب من جبينه خوفاً .

خرجت والدته على صوت إطلاق الرصاص فشاهدت الرجل ممددا في الشارع وأحمد واقفاً كالتمثال . وتعرفت على القتيل وهو معروف بعمله مع المخابرات الإسرائيلية فأمسكت بولدها ودفعته داخل المنزل وأغلقت الباب . كان الفتى تحت تأثير صدمة كبيرة , فاندفع إلى سريره وغطى نفسه وراحت حرارته ترتفع وتنخفض بسبب الرعب الذي أصابه .

لم يفارق المشهد مخيلته وراحت تنتابه الكوابيس المزعجة في الليل , وكلما سأل والدته : " لماذا قتل هذا الرجل " ؟ كانت إجابتها واحدة : " هذا الأمر لا يعنيك , ولا يعنينا " .

كانت إجابة والدته هي حبل المشنقة الذي سيلتف حول رقبته فيما بعد فالتربية فى الأسرة هي التي تحدد هوية النشء ومستقبلهم , ووالدة أحمد وضعت قدم ابنها على أول طريق الانحراف – بحسن نية – لأنها كانت تعتقد أنها بهذا النمط من التربية الخاطئة تحافظ على ابنها ووحيدها .

بعد سنوات نسى أحمد الحادثة تماما , ولم يجد من حوله ما يذكره بها , فأصبح يهمل دروسه كما أصبح يقضى معظم وقته خارج المنزل مع أصدقاء السوء بسبب انعدام الرقابة والمتابعة من قبل الأب , وتشجيع الأم لابنها بأن يعيش حياته ويستمتع بها فلديه من المال ما يكفيه وهو ليس بحاجة إلى الدراسة حسب رأيها.

وفى أحد الأيام جرى نقاش فقال " أبو أحمد " لزوجته بلهجة يائسة : " .. انك ستوصلين ابنك إلى الهاوية بهذا الأسلوب " ؟

ردت زوجته قائلة : " لسنا بحاجة إلى الدراسة , لدينا من المال ما يكفى أحمد ليعيش كيفما يريد "

بلغ أحمد سن المراهقة وأخذ ينحرف عن عادات وتقاليد عائلته المحافظة . كان كل واحد من أهله يحاول جذبه إليه بمده بمزيد من النقود التي كان يحصل عليها يومياً وأصبح الفتى يتردد على المقاهي ودور السينما ويتسكع في الشوارع ويتعاطى الخمر .

وانعكس هذا الأسلوب على دراسته فأهملها وأصبح يرسب في المدرسة حتى طرد منها في الصف الثالث الإعدادي بعد أن رسب عامين متتاليين .

وكان لحادثة طرده من المدرسة وقع كبير على والده , ولكنه اكتفى بنصحه ليبدأ حياته العملية بشكل جاد .

ولكن أحمد كان سعيداّ بخروجه من المدرسة كما كان سعيداً بدفاع والدته المستمر عنه . ولا سيما بعد أن بدأ والده يتخذ موقفاً متشدداً معه بشأن سلوكه خارج المنزل . غير أن الفتى اعتبر انقطاعه عن الدراسة فرصة لا تعوض ليتصرف كما يريد .

في المستودع

تململ أحد الرجال الجالسين حول الطاولة في المقهى وقال موجها حديثه ل

"أبو أحمد" ألا تلاحظ ما يفعله ابنك يوميا ؟

فتح الرجل عينيه بدهشة وقال : " ماذا تقصد " ؟

قال الرجل : انه يتردد على الحانات ويعاكس الفتيات .. ونحن عرفناك رجلاً فاضلا ولا تقبل بمثل هذا السلوك المشين .

انتفض " أبو أحمد " من مكانه كالملدوغ وخرج من المقهى وهو يردد " أعوذ بالله أعوذ بالله " ؟

لم يكن أبو أحمد يتصور أن سلوك ابنه سيصل إلى هذا الدرك فعاد إلى المنزل والشرر يتطاير من عينيه , بحث عن " أحمد " ولم يجده وبقى في انتظاره حتى ساعة متأخرة من الليل .

وانزوى الرجل في ركن من أركان المنزل , جلس على كرسى خشبي , وبقى في مكانه لا يتحرك كالتمثال , ولم تسأله زوجته عن حاله فقد تعودت ذلك وهى تعتبر أن مشاكله لا تعنيها .كان الظلام يخيم على المنزل , وعند الساعة الحادية عشرة ليلاً سمع أبو أحمد صوتاً خفيفاً قادماً من ناحية الباب , فأصغى إليه ثم وقف ليشاهد " أحمد " وهو يدخل المنزل مترنحاً في مشيته .

صاح والده بعصبية " أين كنت " ؟

لم يكن أحمد يتوقع أن يجد والده صاحياً , فهو ينام مباشرة بعد صلاة العشاء , فقال متلعثماً : " كنت .. مع أصدقائي " .

اقترب والده منه فإذا رائحة الخمر تفوح , فهوى على ابنه يصفعه وهو يصرخ: "

أنا برئ منك .. لست ابني " .

صحت " أم أحمد " على هذا الصراخ ودخلت في معركة كلامية مع وزجها وكان الرجل مغلوباً على أمره وزوجته لم تقدر مخاطر موقفها فأثر الانسحاب بعد أن تأكد أنه غير قادر على السيطرة على زوجته وابنه .

فجأة قرر الانسحاب بعد أن أدرك أنه لا يستطيع أن يواصل ولا يستطيع حسم " الصراع " لصالحه , وبعد أن يأس من إصلاح ابنه في ظل حماية والدته له .

في تلك اللحظة استبد به الغضب وحسم الموقف فتردد في جنبات المنزل وهو يقول لزوجته : " أنت طالق طالق طالق " .

استدار الرجل وسار خطوات وهو يستغفر الله فسمع صوت زوجته خلفه تقول لابنها : " ولا يهمك ارتحنا منه ..

بعد انفصال أبويه تمادى أحمد في سلوكه واستهتاره , حتى أصبح معزولاً في قريته , ولم يجد حوله سوى الأصدقاء الذين دفعوه إلى هذا الطريق .

بلغ الشاب العشرين من العمر . والدته التي ضحت بكل شئ لا تراه إلا فيما ندر , وحتى عندما مرضت لم يزرها إلا مرة واحدة كأي غريب , فشعرت بالندم على ما فعلته بحق زوجها وكيف تسببت في انحراف ابنها .

إلى نتانيا

وفى أغسطس ( آب ) 1976 اقترح عليه أحد أصدقائه أن يعمل شفى مستودع لشركة باصات " ايجد " الإسرائيلية في مدينة " نتانيا " فأبدى الشاب استغرابه من هذا العمل وهو ليس بحاجة ماسة إلى المال , ولكنه في الوقت نفسه لم يعد يحصل على كل ما يريد من والدته .

وأراد صديقه " مصطفى " المنحرف أيضاً , أن يقنعه فقال : " وهل ستعتقد أنك ستعمل في المستودع من أجل العمل أو المال ؟ انك ستكون في نتانيا يا صديقي .. ستعمل في المستودع ليلاً وطول النهار في الملاهي وعلى الشاطئ آه لو ترى بنات نتانيا " ؟

لمعت عيني أحمد وهو يستمع إلى هذا الكلام وتداعت في ذهنه صورة والده وهو يؤنبه ويصفعه على سلوكه وكيف أصبح أهل البلدة يتحدثون عنه بامتعاض , خصوصاً بعد أن شاهدوه أكثر من مرة في " جنين " يتسكع ثملاً .

رفع رأسه , وقال : " وهل المستودع بحاجة إلى عمال ؟ "

قال مصطفى : " نعم إنني اعمل بالقرب منه , ولكن في النهار في بلدة " نتانيا " ويومياً أمر بالقرب منه وأعرف بعض الشباب العرب واليهود الذين يعملون

هناك " .

انتابت الشاب مشاعر متناقضة ما بين الخوف من المجهول والحماس .. سيعيش في وسط غريب , ولكنه حسم الأمر وقال في نفسه : " إنني غريب هنا أيضاً فلم لا ؟ "

في صباح اليوم التالي وعند الساعة السادسة صباحاً كان " أحمد " ينتظر في محطة الأتوبيس في قرية " قباطيا " حسب الموعد المتفق عليه مع صديقه للتوجه إلى نتانيا .

مضت دقائق وأحمد يحملق في وجوه العمال القادمين المحطة حتى لمح"مصطفى " وهو يسير بخطى متثاقلة , في تلك الأثناء كان أحد الأتوبيسات " ايجد " المخصص لنقل العمال العرب قد توقف في المحطة , فسارع إليه مشيراً لأحمد أن يصعد بسرعة .

انطلق الأتوبيس باتجاه مدينة " جنين " حيث كان في انتظاره عدد من العمال ثم خرج من المدينة باتجاه " نتانيا " ونزل عدد كبير من العمال في المنطقة التي تقع بين أحياء " الفاتيكيم " و " بيت اسحق " من جهة وسجن " بيت ليد " من جهة نتانيا المدينة .

كان الباص يسير على " الأوتوستراد " الذي يبدأ من المنطقة الصناعية ويشق المدينة حتى الشاطئ وقرب المستودع توقف الأتوبيس ونزلا منه , وسارا باتجاه الباب الرئيسي , وكانت الشوارع شبه خالية في تلك الساعة باستثناء حركة العمال وسيارات النقل .

كان احمد مرتبكاً , متردداً ينظر حوله فلم يسبق له أن عمل على الإطلاق . تبع

" مصطفى " الذي دخل بخطى ثابتة متوجهاً إلى أحد العمال في المستودع

وسأل : " أين الياهو ؟ " رد العامل بدون اكتراث وكأنه متعود على مثل هذه الأسئلة " لا أعرف "

اعتقد أنه لم يأت بعد "

التفت مصطفى لأحمد وقال : " انتظر المعلم الياهو , وعندما يأت قل له أريد أن اعمل كحارس ليلى " لا أستطيع البقاء معك فقد تأخرت عن عملي .

أمسك به محمد متوسلاً : " أرجوك لا تذهب أنا لا أعرف أحدا هنا ابق نعى " .

مصطفى : " وعملي " ؟

محمد : يا آخي خذ إجازة اليوم .

تذمر صديقه وقال : " أمري لله سأبقى معك " .

بعد ساعة من الانتظار قرب البوابة وبين الأتوبيسات التي تجرى عليها عمليات الصيانة , أطل رجل طويل القامة , أشقر اللون قوى البنية يسير في ساحة المستودع مثل المصارع على الحلبة , يرتدى قميصاً أزرق فاتح اللون صيفي وسروال قصير من نوعية رديئة .

دخل إلى المستودع ومر بالشابين وكأنه لم يشاهدهما فاستوقفه مصطفى قائلاً

" مناهيل " معلم " الياهو " .

توقف الياهو ونظر الياهو ونظر إليه ثم قال : ماذا تريد ؟

ابتسم مصطفى وقال وهو يقترب منه : " صديقي أحمد " يريد العمل في المستودع كحارس ليلى " .

التفت الياهو إلى أحمد وقال : " هل تستطيع السهر " ؟

أحمد : " نعم " ..

الياهو : كله يقول نعم .. وبعدين ينام " .

تدخل مصطفى قائلاً : " إنني أعرف شاب نشيط وجيد ويلتزم بالعمل .

الياهو : " سنرى , الشغل شغل في المساء تعال واستلم عملك " .

خرجا من الباب الرئيسي للمستودع وأخذ مصطفى يحدثه عن الياهو قائلاً : " كان الياهو في الجيش الإسرائيلي ووصل إلى رتبة ملازم أول قبل أن يتقاعد , وبعد تقاعده أصبح مسؤولاً عن هذا المستودع الذي تراه .. وأعتقد أنه في المخابرات "

صاح به احمد قائلاً : " طيب وأنا شو دخلي ؟ كلها شغلة في الليل ويرتاح الواحد من القرف في القرية " .

في نهاية الشارع انحرف مصطفى يساراً فقال " أحمد " أين ستذهب ؟ "

مصطفى : " أريد إن أعرفك على بعض الأماكن في المدينة الشاطئ أجملها , أخذ يسيران في الشارع الذي يتصل في نهايته " بالأوتوستراد " القادم من المنطقة الصناعية , إلى الشاطئ فبينما راح " مصطفى " يتحدث دون انقطاع عن الشاطئ ونتانيا والملاهي ...

دورية مفاجئة

في نهاية الشارع الفرعي بدت ساحة مبلطة بالأسمنت بشكل هندسي جميل , لا تدخلها السيارات رغم اتساعها , وقد أقيمت على مداخلها المرتبطة بشوارع المدينة حواجز من الأعمدة الإسمنتية القصيرة بشكل هندسي يتناسب والطابع السياحي للمنطقة .

على طول شاطئ " نتانيا " تمتد الساحة المبلطة بالإسمنت وتنتشر المطاعم والملاهي . بينما تمتد المتنزهات والحدائق العامة بمحاذاة الشاطئ تماماً وترتفع عن مستواه حوالي أربعة أمتار تقريباً .

أعجب " أحمد " بهذا المنظر فطلب من صديقه أن يجلسا في أحد الكازينوهات ولكن " مصطفى " رفض الفكرة قائلاً : " أرى أن نذهب للسباحة ألم تجرب السباحة في الصباح ؟ إنها شئ جميل ومنعش " .

رد مصطفى وقد أصيب بخيبة أمل " إذن نتجول على الشاطئ الآن , وفيما بعد سأعلمك السباحة .

قطعا الساحة الإسمنتية ودخلا إلى الحدائق العامة المحاذية للشاطئ ثم نزلا من إحدى المداخل إلى الشاطئ الرملي حيث تنتشر المظلات والمصطافين ونقاط المراقبة .

أخذا يتسكعان على الرمال وفجأة توقفت أمامهما فتاة إسرائيلية تبدو في الخامسة والعشرين من العمر , ترتدى سروالاً قصيراً بنياً وقميصاً من لون " الكاكى " أخرجت من جيبها بطريقة آلية بطاقة زرقاء عليها شعار الشرطة الإسرائيلية

" سنبلتان تحيطان بالنجمة السداسية " وقالت وهى تبرزها في وجه الشابين , باللغة العبرية " مشتراه " همس " مصطفى " لصديقه : " تقول إنها من الشرطة

" أخرج بطاقتك " تفحصت البطاقتين , ثم قالت : " انتظرا لحظة " .

توجهت إلى أحد أكشاك المراقبة القريبة غابت حوالة خمس دقائق ثم عادت , وأعادت البطاقتين إليهما ثم انصرفت .

تذمر " محمد " من هذه الحادثة وقال : " ما هذا بدأنا بالمشاكل " .

ضحك مصطفى وقال : " لا تقلق هذا إجراء روتيني " .

كان مصطفى يعرف بمثل هذه الإجراءات التي يتعرض إليها باستمرار أثناء تجواله في المناطق الإسرائيلية , فالمخابرات الإسرائيلية تفرض إجراءات عديدة منها محلات التفتيش المستمرة فعلى الشاطئ مثلاً , تقوم دوريات الشرطة الإسرائيلية بطلب بطاقات العرب الذين يتواجدون يومياً في هذا المكان , وتسجل المعلومات لديها في الأكشاك المنتشرة هناك والمخصصة للأمن , وإذا حصلت عملية فدائية فان الشرطة تقوم بتحديد وحصر المشبوهين وتستدعى الأشخاص العرب الذي وجدوا شفى المكان خلال 24 ساعة . هذه الإجراءات تعكس حالة الفزع التي يعيشها الكيان الإسرائيلي من الداخل , فقد خلق العمل الفدائي هذه الحالة التي امتدت إلى كافة مرافق الحياة في إسرائيل شفى الشارع والمصنع والملهى والمنزل والفندق .

بعد خروجهما من الشاطئ جلسا حوالة ساعة فى إحدى الكازينوهات ثم واصلا سيرهما داخل المدينة ,, حتى حل المساء فاستلم " أحمد " مكانه في العمل فى المستودع وعاد " مصطفى " إلى منزله فى القرية .

فى المصنع

بدأ أحمد يتفحص الوجوه ويتعرف على الموجودين فى مكان العمل , وسرعان ما تحلق العمل فى أحاديث وسمر حتى ساعات الفجر .

تعرف على معظم زملائه من العرب واليهود , وفى تلك الليلة جرى حادث بسيط بينه وبين زملائه من العرب الذي حاول منعه من شرب الكحول مع الشباب اليهود , فقد ظن ذلك الزميل الذي يدعى " عدنان " أن هذا الوافد الجديد يريد الشرب لأول مرة كما أظهر للجماعة , وعندما عرفه يتعاطى الكحول منذ فترة طويلة اعتذر منه وحاول التعرف على ظروف ساب صغير فى مقتبل العمر , يتعاطى الكحول منذ سنوات , فهذه ظاهرة غريبة وليست عادية .

كان " عدنان " فى مثل سنه تقريباً ولكنه نمط مختلف فهو يميل إلى الصمت والعزلة ويضع حداًَ بينه وبين بعض التصرفات المشينة لزملائه مثل تعاطى الكحول والمخدرات .

فى ساعات الفجر , جمعت جلسة " عدنان " و " أحمد " بينما كان معظم الشباب ينام فحاول عدنان معرفة تفاصيل عن الحياة فى جنين وظروف الناس هناك ولكنه اكتشف أن أحمد لا يعرف شيئاً وكان قادم من عالم آخر , عندها فقط فهم لماذا أقدم على تعاطى الكحول منذ سن مبكرة . الشيء الوحيد الذي يتقنه أحمد هو الشتم والتأفف من الناس الذي سببوا له ضيقاً فى حياته .

" عدنان " الذي فضل العمل فى هذا المستودع بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة , بسبب ظروف عائلته المادية , أثر أن يحدثه عن المدينة التي يسكن فيها وهى " نابلس " .

بعد أسبوعين من عمله فى المستودع , انتقل " مصطفى " للعمل فى " تل أبيب " فترك فراغاً لدى أحمد الذي اعتاد أن يذهب معه فى أوقات عديدة إلى الملاهي بعد انتهاء العمل .

فى أوائل أيلول كان " أحمد " يجلس فى إحدى الكازينوهات القريب من الشاطئ كعادته , فى مثل تلك الساعة من الصباح , وبعد برع ساعة دخل رجل أسمر البشرة , متوسط القامة ممتلئ الجسم , شعره خفيف فى الأربعينات من العمر , جلس حول إحدى الطاولات خلفه وطلب فنجاناً من القهوة ثم أخرج علبة سجائر فرنسية من نوع " جيتان " وأشعل السيجارة . مرت دقائق كان فيها " أحمد " شارد الذهن يلاحق بعينيه الفتيات خارج الكازينو , وفجأة قام الرجل من مكانه واقترب منه ثم تعثر بكرسي قريب من طاولة " أحمد " صاح الرجل قائلاً : " ما هذا " !

ثم التفت إلى " أحمد " قائلاً : أنا آسف , يبدو إنني لم أنتبه " أكرر أسفي رد أحمد " لا شئ يدعو للأسف لم يحصل شئ " .

أبدى الرجل دماثة أخلاق ولطف كبيرين فقال : " أعتذر مجدداً " !

ثم استدرك قائلاً : " الأخ عربي ؟ "!

سحب الرجل الكرسي وجلس وهو يقول : " هل تسمح لي " ؟.

أحمد : " تفضل " .

قدم الرجل نفسه قائلاً : " أنا زاهر من عكا ولدى شركة سياحية وجئت إلى هنا للاتفاق مع أحد الفنادق لوفد سياحي إيطالي , عمل مزعج والسياح يا أخي طلباتهم لا تنتهي صحيح عمل الشركة السياحية مربح ولكنه متعب أيضاً " .

دخول زاهر

هكذا اقتحم " زاهر " حياة " أحمد " وفجأة بدل " أحمد " من لهجته , فقد كان مستاء من هذا الرجل الغريب الثرثار , عندما خطرت فى ذهنه فكرة : " لماذا لا اعمل معه والفرصة قد أتت " ! واصل " زاهر " حديثه عن السياحة ومشاكلها والفنادق , فقاطعه " أحمد " قائلاً : " هل أستطيع أن أجد لي عملاً معك فى شركتك " ؟

فكر الرجل ملياً ثم رفع رأسه وقال : " ماذا تستطيع أن تعمل ؟ هل عملت سابقاً فى شركة سياحية " ؟

"أحمد " : كلا ولكن أستطيع أن أتعلم بسرعة " .

زاهر : " ولكن المشكلة أنني لا أعرفك . على كل حال لن أخيب رجاءك ,أنت شاب لطيف , وسأجد لك عملاً يناسبك .. مثلاً الاتصال بالفنادق والاتفاق معها , تعمل معي فى البداية حتى تتعلم , ثم بعدها تقوم بالعمل بمفردك " .

كاد أحمد يطير من الفرح , فقال زاهر : " ولكن يجب أن أجربك فى البداية , لا تغضب منى , الشغل شغل , هذه وفود سياحية والمعاملة والأسلوب عنصران أساسيان فى العمل " .

أحمد : " ابدأ هذا من حقك , وستجدني عند حسن ظنك " .

زاهر : " إن صلحت للعمل , ستصبح نائباً لي , نائب مدير الشركة " .

أحس احمد بأن الحظ قد بدأ يبتسم له , نائب مدير دفعة واحدة ! نهض " زاهر " من مكانه فاستوقفه " أحمد " قائلاً : " كيف سأتصل بك " ؟ .

عاد " زاهر" للجلوس ثانية وقال معتذراً : آسف لقد نسيت , على كل حال ما رأيك لو تزورني فى شقتي الليلة .. قد يأتيني ضيوف وستتعرف عليهم لأن هذا جزء من العمل أيضاً .

أحمد وعملي فى المستودع ؟

قال " زاهر" بسخرية : تريد أن تصبح مسؤول فى الشركة وبتدور على

الباصات " ؟

اندفع " أحمد " خلف هذا الحلم قائلاً : " بلا حراسات بلا بطيخ " !

زاهر : " انتظرني فى الكازينو واستغرق الشاب فى أحلامه : ما أجمل هذا اليوم الذي ساق إليه هذا الرجل الطيب ...

فى الموعد المحدد وعند الساعة السابعة مساء , كان " أحمد " فى انتظار " زاهر " وكان الكازينو يعج بالزبائن فى تلك الساعة وبعد حوالي 20 دقيقة جاء الرجل وقال له : " هيا بنا " !

خرج " أحمد " معه وكانت سيارة " زاهر " الفيات البيضاء تقف على جانب الشارع .

انطلقت السيارة فى شوارع نتانيا , حتى توقفت قرب إحدى العمارات السكنية فى وسط المدينة , ثم صعدا إلى شقة فى الطابق الثالث .

فتح " زاهر " الباب ودخل خلفه الفتى , كانت شقة زاهر لا تدل على ثراء , فجلس " أحمد " فى الصالون فى حين أحضر زاهر شراباً وجلس يتحدث معه , بعد نصف ساعة قرع جرس الشقة فقام " زاهر " وفتح الباب , وراح يرحب بالزائر بالإنجليزية .

دخلت فتاة شقراء , طويلة القامة ابتسامتها لا تفارق شفتيها وحيت بالإنجليزية .

جلست الفتاة فقدم لها زاهر شراباً , وكان يترجم الحديث بالعبرية ل" أحمد " فأخبره أنها فتاة سويسرية لا تجيد إلا اللغتين الإنجليزية والألمانية , كانت " تريز " تتصرف بشكل عادى فى الشقة , وكأنها فى بيتها , كما لاحظ " أحمد " أنها تعرف زاهر معرفة جيدة , وتتحدث معه بدون تكليف .

قال له " زاهر" إنها تعمل فى شركة سياحية سويسرية ولدينا علاقات عمل معها وتتردد على إسرائيل .

فى صباح اليوم التالي كان " أحمد " ما يزال يغط فى نوم عميق ففتح عينيه على صوت " زاهر " وهو يهزه من يده ويقول " الساعة عشرة " !

حاول أحمد أن ينهض ولكنه لم يستطع فقد كان يحس بصداع شديد فى رأسه , وضع يديه على رأسه وقال بصوت خافت : " رأسي .. رأسي " .

زاهر : " أنتا ذاهب لعملي , إن أردت أحضر لك طبيباً " !

أحمد : " لا داعي " .

وألقى برأسه على الوسادة , ثم عاد يغط فى نوم عميق .

عند الظهر بدأ يشعر بتحسن , ولكنه كان يحس بدوار خفيف فى رأسه وبالغثيان .

فى المساء عاد إلى عمله , وقد بدأ يستعيد عافيته , وهناك جاءه عدنان يستفسر عن صحته فقد كانت علامات الإعياء بادية على وجهه , ولكنه استغرب لماذا لم يسأل عنه الياهو فذهب إليه وقال له : " لقد كنت تعباً بالأمس , ولم أستطع المجيء " .

قال الياهو بكل لطف وعلى غير عادته : " إذا كنت مريضاً باستطاعتك التغيب عن هذه الليلة أيضاً " .

ظن الفتى أن المعلم يسخر منه فقال : " أقسم لك أنني كنت مريضاً " .

الياهو : " أنا لا أسخر منك " عاد الفتى إلى حيث يجلس " عدنان " وهو لا يصدق ما سمعه ورآه , كيف انقلب الرجل فجأة , فجلس وهو يقول : " سبحان مغير الأحوال " !

" عدنان " ما بك ؟

" أحمد : " لقد جئت اليوم وأنا أتوقع أن يطردني من العمل , فهو رجل كما تعرفه لا يعرف الرحمة , وفجأة أخذ يستفسر عن صحتي وطلب منى التغيب اليوم أيضاً إن كنت لا أزال متعباً .

صمت عدنان قليلاً ثم قال : " أين كنت بالأمس ؟

أخذ أحمد يروى قصة لقائه بزاهر فى الكازينو والعمل الموعود به والفتاة السويسرية الشقراء " تريز " التي التقاها بشقة " زاهر " .

قال عدنان : " هل هو عربي ؟ "

قال " أحمد " بلهجة لا تخلو من الحماس : " انه عربي من عكا .

صحيح يتكلم العربية بلكنة أجنبية , ولكن هذا الأمر عائد لاحتكاكه المستمر بالأجانب والشركات فى أوروبا وإسرائيل " .

هز " عدنان " رأسه وقال " ممكن " .

ثم قال : ط متى ستراه مرة ثانية " ؟

أحمد : بعد غد الساعة عشرة صباحاً فى الشقة .

شريط فيديو

فى تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً كان أحمد يقرع جرس الباب , مرت دقائق فخيل إليه أن الشقة فارغة وان " زاهر " قد نسى الموعد . هز رأسه بيأس وقال لنفسه : " لماذا سيتذكرني , أنا مجرد موظف أطلب عملاً لديه " .

كاد أن يعدو لولا أن سمع المفتاح يدور فى القفل من الداخل فتنفس الصعداء انفتح الباب فتحة صغيرة وظهر وجه زاهر فابتسم وقال : " لحظة ! ثم فتح الباب

وقال : " تفضل " .

دخل شاب وجالت عيناه فى الشقة كان واضحاً انه لا يوجد بها أحد جلس على مقعد فى الصالون , بينما جلس " زاهر " بقربه مسترخياً فى مقعده , فسأله أحمد : " ماذا حصل بالنسبة لعملي " ؟

ابتسم " زاهر " ابتسامة صفراء وقال : " حسناً عماك الآن بين يديك " . ثم قام باتجاه جهاز التلفزيون الذي كان يبث برنامج للأطفال باللغة العربية , أدار جهاز الفيديو وهو يقول : " لقد حضرت لك مفاجأة ما رأيك بشريط فيديو يعجبك " !

مرت دقائق والشريط لا يطهر شيئاً على الشاشة وفجأة بدت المناظر تجهو وجه الشاب وهو يشاهد مناظر الشقة من الداخل وغرفة النوم وفيها أحمد وتريز . فقفز من مكانه كأنما أصابه مس من الجنون وصرخ : ما هذا , كيف فعلت هذا , هذا شريط مزور " أنت لا تعمل فى شركة أنت تعمل فى عصابة سأشكوك للشرطة " .

كان " زاهر " صامتاً يشاهد الشريط وينفث دخان السجائر فى الهواء علامة استمتاعه بالمشاهد وكأنه لم يسمع شيئاً ولكنه التفت إليه عندما سمعه يقول سأشكوك للشرطة .

واصل الشاب ثورته وقال : " لن أسكت " !

وهجم الشاب باتجاه الشريط لانتزاعه من الفيديو فسمع زاهر يقول : " أنت تتعب نفسك , لدى عشرين نسخة أخرى .

عاد الفتى إلى أحد المقاعد وارتمى وهو ينتفض من الغضب وقال : " ماذا تريد منى " ؟

قام " زاهر " وأطفأ الجهاز وهو يقول : " الآن بدأت تفهم أقدم لك نفسي " زاهر " من المخابرات الإسرائيلية .

أخذ الشاب يتصبب عرقاً وقال ويداه ترتعشان من العصبية " لم أفعل شيئاً ولا دخل لي بالسياسة " .

زاهر : " اعرف هذا " ..

أحمد : " ماذا تريد منى إذن ؟ " .

زاهر : " أن تعمل معنا " .

أحمد : " أنا لا أفهم فى عمل المخابرات , ولن تستفيدوا منى " !

زاهر : ط هذه مسألة نحن نقررها وليس أنت . الآن اسمع كلامي , أفضل لك من الفضيحة .. إن سمعت كلامي لن ير أحد الشريط , وإلا تتحمل المسؤولية يا بطل

أحمد : " ماذا سأفعل " ؟

زاهر : " سأكلفك بمهمة وستحصل على مبلغ كبير من المال , والآن سنبدأ

العمل " .

التعليقات