من ملفات المخابرات الفلسطينية ..الجاسوس المدلل بقلم:عبدالله عيسى

من ملفات المخابرات الفلسطينية :

الجاسوس المدلل

بقلم:عبدالله عيسى

المقدمة

لقد أفرزت الحرب الأهلية في لبنان واقعاً أمنياً صعباً ، فكانت المخابرات الإسرائيلية " الموساد" تدفع بعملائها باستمرار للتجسس على الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.

وكانت مهمة المخابرات الفلسطينية صعبة للغاية في ظل هذا الواقع ، حيث استغلت الموساد ظروف لبنان، لتقوم عبر عملائها بمحاولات تخريب العلاقة بين التنظيمات الفلسطينية واللبنانية ،كذلك محاولة استعداء المواطن اللبناني على الثورة الفلسطينية.

قصة " الجاسوس المدلل" قصة واقعية، من ملفات المخابرات الفلسطينية ، تعطي صورة حقيقية عن الدور الإسرائيلي في العديد من الأحداث المعروفة والتي في كثير من الأحيان حاول الإعلام الإسرائيلي إلصاق التهم الباطلة بمنظمة التحرير الفلسطينية.

تروي هذه القصة تفاصيل مثيرة حول اغتيال زهير محسن الأمين العام لمنظمة الصاعقة في فرنسا ، كذلك لإفشال الموساد لمحاولة اغتيال السادات.

هذه الحلقة من حلقات المواجهة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل انقلبت عكسياً لصالح المخابرات الفلسطينية التي اخترقت الموساد وقامت بتضليله لفترة طويلة.

قصة " الجاسوس المدلل" تسجل وقائع الحرب السرية بين المخابرات الفلسطينية والموساد منذ منتصف السبعينات وحتى الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.

الفصل الأول

الرذيلة تقود إلى خيانة الوطن

كان وسيماً وذكياً ، عيناه سوداوان يحتضنان في خفر حور العذارى ، وجهه أسيل متوج بشعر فاحم مموج ، وكم من مراهقة تمنت لو يكون هو العريس وكان يحلو له مطاردة الصبايا المراهقات ويحلو له أكثر إن يتحدث عن انتصاراته الغرامية معهن أمام أصحابه ومجامليه من المراهقين ، وهي انتصارات بريئة ، لم تكن تتعدى ابتسامة عن بعد أو لمسة و عن قرب أو غمزة في الطريق ، فالأهل محافظون والبيئة كلها محافظة . لكن طارق كان يبني على تلك الإشارات المراهقة والبسمات البعيدة قصصاً تدب الحسد والغيرة في صدر الأتراب الصغار. كان كثير الاهتمام بنفسه ومظهره وقليل الاهتمام بدروسه وواجباته المدرسية، وكان يحلم أن يكون غنياً تتدفق الأموال بين يديه ليتسنى له تسجيل انتصارات حقيقية في عالم الجمال والنساء، يترجم قصص المراهقة وخيالاتها إلى حقائق ووقائع . لكن المشوار طويل واليد قصيرة فهو ما زال طالباً في المرحلة الإعدادية وأبوه موظف في الجيش اللبناني، معاشه لا يكفي لأكثر من الستر وسد الحاجة ومصاريف البيت والعائلة لكن طارق يتلظى بتطلعات الشباب ومغامراتهم . يود لو أنه يستطيع ترك المدرسة ومزاولة العمل ليتسنى له تحقيق مآربه، يهمل دروسه ويكثر غيابه عن المدرسة ، يطالب أمه دائماً أن تعطيه مصروفاً كغيره من الأولاد الأغنياء، يغادر المدرسة قبل حصوله على الشهادة الثانوية . تقدم من مكتب لشركة سفريات في شارع الحمراء في العاصمة بيروت، حيث يوجد عملاً هناك ، كان يجيد إلى حد ما الحديث باللغة الإنجليزية ، الراتب قليل ولكنه كاف للظهور بمظهر القادر ، والحياة في بيروت وسط جيله من الشبان حياة مظاهر ، لكنه كان يشعر بالندم حين يخلو إلى نفسه ، لتركه المدرسة ، فالحياة العملية بالنسبة لفتى غير متعلم مثله لاتسمن ولا تغني من جوع. ثم أن والده في تلك الفترة أحيل على التقاعد ووجد لنفسه وظيفة في جريدة لبنانية.

ذات يوم وهو يجلس أمام (الكاونتر) في شركة السفريات دخل عليه رجل وسيم الشاب شعره طويل ينسدل على كتفيه ، فيه رشاقة وأناقة ظاهرة ، تتسم حركاته بالسرعة والانفعال ، تقدم منه بثقة طالباً تذكرة سفر ذهاب وعودة إلى باريس، ذكر له الاسم فبدا مألوفاً لديه وكان طارق قد أدرك حتى قبل أن ينطق الرج-ل باسمه أن هذا الأرمني المسافر إلى باريس رسام مشهور يلعب بالمال كما يشاء ، سافر الرسام وعاد وبعد فترة رجع إلى مكتب السفريات واشترى تذكرة أخرى للسفر إلى عاصمة عربية هذه المرة . ومرة أخرى إلى باريس. وهكذا قليلاً قليلاً توطدت المعرفة بينهما ، وذات يوم دعا الرسام طارق للغذاء عنده في منزله، ولم يتردد طارق في قبول الدعوة فذهبا معاً إلى المنزل، كان الرسام كريماً إلى أبعد الحدود حيث مد لطارق مائدة شهية، من الحمص المتبل والمشويات والبسطرما، أكل كثيراً وشرب كثيراً وضحكا لأكثر، ولاحظ الرسام أن النعاس أخذ يدب في عيني ضيفه فقال له"( بين عليك تعبان، قوم... نام هونيك على تخت).

في الطريق إلى البيت ، ثار طارق على نفسه ، وندم على العلاقة التي بدأها مع الرسام، إذ كيف يقوم بمثل هذا العمل المشين وهو يعد نفسه شخصاً متكامل الرجولة. بل كيف يندمج في هذا العمل بالرغم من تربيته المحافظة ودينه الذي نشأ عليه يمنعه ويحرمه عليه ، وماذا لو عرف عنه أصدقاءه ذلك ، سيفضحونه بالتأكيد . وسيعلم والده بالأمر وأمه وأخوته ، وتكون فضيحة ما بعدها فضيحة، الموت أهون منها، تحسس الخمسين ليرة التي دسها الرسام في جيبه ، ومضى إلى البيت، اغتسل وخرج يتسكع في الشوارع على غير هدى، ثم ما لبث أن عاد إلى البيت ونام ليذهب في الصباح إلى عمله كالعادة.

بعد فترة جاء الرسام إليه قبل نهاية العمل بدقائق انتظره حتى أنهى عمله وخرجا بسيارة الرسام ومرا على أحد مطاعم الروشة .

بعد عام كامل في شركة السفريات ترك عمله هناك ليلتحق بإحدى الشركات التي تبيع الموسوعات وتسوقها، تدرب في مكتب الشركة في بيروت مدة ثلاثة أشهر قبل أن ترسله إلى إحدى البلدان العربية لتسويق الموسوعات هناك ، مكث في ذلك البلد فترة طويلة جمع خلالها مبلغاً كبيراً من المال ، عاد به إلى بيروت حيث استأجر مكتباً في بناية الحسن سنتر مقابل اليونسكو على طريق المزرعة لممارسة أعمال الديكور وبيع معداته ومستلزماته من دهان وورق جدران و" موكيت" وما إلى ذلك . في البدء كان العمل صعباً ففشل في المشروع وخسر فيه تحويشة العمر. لكنه خلال تلك الفترة تعرف على عدد كبير من الأغنياء ومتوسطي الحال، كما تعرف على أحد الأثرياء ولنسمه " سعيد" الذي يستأجر كلب عام فيلا ضخمة جميلة قرب فندق الريفيرا المطل على الروشة بمبلغ 50 ألف ليرة لبنانية في الشهر. وسعيد لا يأتي إلى بيروت إلا للسهر وانفاق الفلوس على العربدة والتحشيش والسهرات الحمراء، التي ينفق فيها بغير عد أو حساب ، فالرجل سخي مع الأصدقاء ، وكريم مع المعارف والنساء والشباب، يهدي العقود والخواتم المصنوعة من الأحجار الكريمة والذهب التي يسيل لهل اللعاب ، كما لو أنها سجائر وعلب "شوكولا" . وكم دهش طارق حين رأى سعيد يهدي أحدهم سيارة (بي.ام. دبليو) فخمة من الوكالة.

ودهش أكثر حين رأى سعيد يلعب بقطعة ضخمة من " الألماس" في يده ، فسأله إن كانت " ألماساً " حقيقياً فضحك سعيد و ألقاها بين يديه قائلا: " ما رأيك أنت ، خذ تفرج عليها وتفحصها جيداً " . تفحصها طارق وعرضها أمام عينيه فرآها تضج بالألوان التي تتقاطع مع بعضها البعض مثل نور على نور، عندئذ قال له سعيد أن ثمنها مليون ونصف المليون دولار، صعق طارق لدى سماعه قيمة الألماسة فأعادها إلى سعيد وهو يرتجف.

الرسام الأرمني كان أيضاً هناك عند سعيد ، فقد كان صديقاً له وقد اشترى منه سعيد خمس لوحات بمبلغ كبير . لكن الرسام الأرمني لم يكن يرتاح لمناورات سعيد مع طارق. فقد كان يغار عليه من كل الرجال، خصوصاً سعيد.

لم يجد طارق نفسه غريباً عن هذه السهرات الحمراء، وكان يطمح أن يصبح مقرباً من سعيد مهما كلف الأمر ، بالرغم من غيرة صديقه الرسام عليه ولم يكن ليغيب عن سعيد الخبير في هذه الأمور أن يلحظ مدى اهتمام الرسام بالفتى، فاستغل ذهاب الرسام إلى الحمام في إحدى الليالي ليدعو طارق إلى الغذاء عنده في اليوم التالي فرح طارق بالدعوة المنتظرة.

وبعد لقاء حافل ناول سعيد طارق 4 آلاف ليرة لبنانية دسها في جيبه وخرج ، ليعود في السهرة كالعادة وكأن شيئاً لم يكن.

وصاغر طارق يغار على سعيد ، وكانت غيرته تنصب على شخص واحد يدعى" انطوان" الذي كان محظياً من قبل شخصيات معروفة.

صار طارق جزءاً من سهرات سعيد كما صار جزءاً من الليل لحياة الليل. ونظراً لأوضاع بيروت والعنف السائد في بعض مناطقها فقد اشترى طارق مسدساً ، وارد أن يحصل على ترخيص له ، ولما لم يكن منتمياً إلى أي تنظيم حزبي أو سياسي فقد صعب عليه الحصول على الترخيص اللازم . إلى أن كان في أحد الأيام يجلس في أحد المطاعم الصغيرة مقابل جريدة " النهار" حيث يعمل والده، هناك تعرف على سائق سيارة يعمل في الجريدة ، فأخبره بالمسدس وطلب منه أن يساعده في الحصول على رخصة له، فقال السائق (بسيطة) لقد افتتحت منظمة " الصاعقة" مكتباً لها هنا، وأشار بيده إلى موقع المكتب وهو يضيف: مسؤول المكتب ضابط يدعى خليل وهو صديقي ، سأعرفك عليه ولن يردك خائباً . فرح طارق وكان لا يزال غارقاً في الفرح حين دخل خليل بلحمه ودمه إلى المطعم وجلس إلى إحدى الموائد بعد أن سلم على السائق الذي عرفه على طارق فوراً وفاتحه بموضوع المسدس فقال خليل (ولا يهمك بسيطة).

بعد يومين أحضر خليل رخصة المسدس معه إلى المطعم وأعطاها لطارق الذي علم من خليل أنه دائم التردد على هذا المطعم لتناول الإفطار فيه وأحياناً الغداء فكثرت لقاءاتهما وصار خليل يصطحب طارق كثير من الأحيان معه إلى مكتبه في الحمراء وهو ( مكتب 13 أمن الصاعقة ) كما كانا يذهبان معا للعب " الفليبر " في أحد المحلات القريبة من المكتب , حيث يقضيان عدة ساعات أمام الماكينات يلعبان ويقتلان الوقت . مع الأيام ومن خلال الضابط خليل تعرف طارق على معظم المسئولين في منظمة الصاعقة , خصوصا " نسور الثورة " جناحها العسكري . أصبح من عادة خليل تكليف طارق ببعض المهمات البسيطة في ظل الفوضى التي كانت تسود في بعض التنظيمات , و بالرغم من عدم انتماء طارق للتنظيم إلا أنه كان سعيد بالمهمات التي يكلفه بها خليل و لتي تمثل في إعداد جوازات السفر لمقاتلين في مهمات خارجية , و الحصول على التأشيرات اللازمة . و لم يكن يتقاضى مقابل عمله هذا أية أجور . فقد كان يشعر أنه يقوم بعمل مهما ضؤلت قيمته , إلا أنه يندرج في باب العمل الوطني القومي . خصوصا أن خليل لم يكن من النوع الذي يخفي أسرارا , فقد كان كثير الحديث عن عمله في المنظمة و عن المسئولين فيها و أحيانا كثيرة كان يدلي له بأخبار عن طبيعة المهام التي سيقوم بها الفدائيون .

أحلام

ذات يوم من شهر مايو " أيار " 1978 كان طارق يجلس في مقهى ومطعم نصر المطل على الروشة , كان الجرسون يرفع من أمامه الأطباق الفارغة حين حانت منه التفاتة إلى المائدة المجاورة , فوجد عليها امرأة في الثلاثينات الأخيرة من العمر على وجهها ملامح عز و جمال و أناقة ومعها طفلان , اقترب أحدهما منه و كان صغيرا فتعثر الطفل ووقع على الأرض , فنهض طارق يرفع الصبي و ينفض له ثيابه ويوصله إلى أمه التي شكرته و دعته بكل أدب لمشاركتها فنجان قهوة . فشكرها وجلس بجوارها , وهو يقول ( أولادك حلوين ) فضحكت وهي تقول ( قصدك يعني مش طالعين لأمهم ) فارتبك وهو يقول معتذرا ( بالعكس يا مدام . أنتي حلوة كتير ) .

و هكذا دار الحديث بينهما . حو ل الأولاد و الجمال و الزواج و الروشة و المطعم الذي يجلسان فيه , إذ فهم منها أنها كثيرا ما تتردد على هذا المطعم لأنه كما تقول مطعم يغسل رجليه في البحر , و الخدم فيه يحبون الأولاد ويلاطفونهم . طلبا فنجانين آخرين من القهوة و طلبت " بوظة " للأولاد , بعد فترة نظرت إلى ساعتها و نهضت وهي تقول ( نسينا الوقت , صارت الساعة 11 لازم الأولاد يناموا ) نهض طارق و عرض عليها أن يوصلها إلى البيت بسيارته فوافقت و هي تشكره . وضع الأولاد في المقعد الخلفي من السيارة بينما ركبت هي إلى جواره فانطلق بها إلى بيتها .

توقف أمام العمارة . و فتح لها الباب ثم فتح الباب الخلفي , وحمل الصغير بين يديه ومشى معها إلى مدخل العمارة يوصلها به أمام باب الشقة أخرجت المفتاح و فتحت الباب ودعته ليشرب فنجان قهوة .

بعد أن وضعت الأولاد في غرفة نومهم صنعت إبريقا من القهوة و أحضرت فنجانين و جلست تصب و يشربان , شقة فاخرة , وأثاثها فاخر و المرأة تبدو غنية , وحين سألها عن زوجها أخبرته بأنه رجل أعمال كبير في نيجيريا وهي لا تطيق الحياة في الصيف هناك , لذلك تفضل المجيء إلى بيروت أو أوروبا , دهش طارق و تململ على كرسيه بشكل ملفت فظهر المسدس تحت حزامه , فسألته عنه دون أن يبدو عليها الخوف , فقال لها بأنه يحمله تحسبا وهو مسدس مرخص فردت بسؤال آخر ومن أين حصلت على الترخيص فأجابها ( من منظمة الصاعقة ) فردت بسؤال آخر ( و هل تعمل معهم ) فقال ( لا , ولكنهم أصحابي , جميع المسئولين فيها أصحابي ) , كانت تسأله و إمارات الإعجاب بشخصيته تبدو على قسمات وجهها الجميل , فانتهز الفرصة و أخذ يحدثها عن الأعمال التي قوم بها مقاتلو الصاعقة و المساعدات القيمة و النصائح لتي يقدمها لهم محاولا جذبها إليه بتلميع صورته وشخصيته التي يعرف في أعماق نفسه أنها شخصية أذلها و سحقها الرسام الأرمني و سعيد و غيرهما .

بالمسدس و بهذه المرأة الثلاثينية أحس طارق بأنه يستعيد شيئا من رجولته المهدورة . طال الوقت وجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل فقالت له أحلام : طارق , أنا معجبة بك كثيرا وهذا رقم هاتفي , أرجوك أن تتصل بي في أي وقت تشاء دعنا نلتقي ونتحدث فحديثك شيق وجميل .

- و أنتي أيضا جميلة يا ست أحلام وتأكدي أنني سأتصل بك .

على الباب قبلته و هي تودعه قبلة فيها ألف معنى و ألف إشارة فانتفخت أوداجه واحمر وجهه , وكان يشهق بطعم الرجولة الذي تدفق فجأة في أعماقه بفضل هذه المرأة .

قاد سيارته بجنون , و هو يفكر في أحلام هذه المرأة التي دخلت حياته هكذا بالصدفة وبلا مقدمات لتعيد له شيئا من وهج الرجولة المفقودة عنده , و صمم و هو في غمرة هذه الأفكار ألا يتصل بها لا في الغد ولا بعده حتى يشعرها بشخصيته ويجعلها هي تسعى إليه وتتمسك به فهي الحلم الذي ضاع منه على سرير الرسام اللبناني وفيلا سعيد , و لا أقل من أن يكون هو فارسا لأحلام في غياب الزوج البعيد في نيجيريا .

و يوم اتصلت هي به بعد أسبوع شعر بأن خطته نجحت أن الصيد الثمين وقع . عاتبته فاحتج بكثر ة العمل وانشغاله مع الشباب في نسور الثورة لكنه وعدها بالاتصال واللقاء .

و بينما هو يتناول العشاء في مطعم صغير في نهاية شارع الحمراء بنزلة أبو طالب جاءه النادل يخبره بأن هناك شخصا على الهاتف يريد أن يتحدث إليه اسمه أحمد , فنهض فإذا هو صديقه الذي كان يعمل قبل الحرب في مسبح فندق السان جورج و بعد الحرب سافر إلى لندن حيث عمل هناك في عدة مهن بسيطة يوصل الطلبات إلى البيوت وينظفها , وكان قبل سفره إلى لندن قد التقى بطارق أكثر من مرة عند الرسام الأرمني .

فوجئ طارق بعودة أحمد من لندن وفوجئ به كيف حصل على هاتف المطعم فأخبره هذا بأنه اتصل به على البيت فأخبرته أخته أنه في هذا المطعم و هو يريد أن يسهرا معا , سأله طارق و أين أنت الآن فقال أحمد أنا في بيت إحدى الصديقات و هذا هو العنوان تعال فورا , وصعق طارق حين ذكر له أحمد العنوان لقد كان عنوان أحلام , و ليتأكد من ذلك قال لأحمد ( بيت مين ) فرد احمد ( بيت الست أحلام ) .

و لم يكمل طارق عشاءه دفع قيمة ما طلب وخرج على الفور و طار إلى بيت أحلام حيث كانت هناك مفاجأة في انتظاره .

الفصل الثاني

المصيدة

وصل إلى شقة أحلام , و ما أن قرع الجرس حتى انشق الباب عنها فقالت مرحبة : " أهلا " . رآه أحمد من بعيد فهرول من الصالون يعانقه و يعرفه على أحلام . وكان طارق قد لمح أنها لا تريد أن يعرف أحمد أنها على معرفة معه .

جلس أحمد بجواره , يحدثه عن مغامراته العاطفية في لندن , وعن الأثرياء الذين التقاهم هناك وتعرف بهم . كان طارق ممتعضا من حديث احمد , يسترق النظرات إلى أحلام معجبا بجمالها وقوة شخصيتها إلى أن قال : أحد الأثرياء و اسمه فلان , قال لي في لندن : إذا جمعتني بطارق سأعطيك 5000 دولار هنا انتبه طارق مستفسرا فاسترد أحمد في ثرثرته موضحا يقول : انه رآك في " ملهى البلواب " .

تفاهة أحمد جعلت طارق يتساءل بينه وبين نفسه عن السر الذي جمع بين أحلام وهذا المخلوق الجاهل , كما جعلته يتساءل عن الكيفية التي يتعرف بها أحمد على هذا العدد الكبير من الأثرياء و كأنما ظهرت تساؤلاته على صفحة وجهه .

فأدركت أحلام ما يدور في خاطره فقالت : كان أحمد قبل أن يسافر إلى لندن يأتي دائما لتنظيف البيت هنا , و قضاء حاجاتنا من السوق و قد أصبح جزءا من العائلة فقد لحق بنا إلى نيجيريا حيث عمل في بيتنا هناك وكذلك في بيتنا في لندن .

ترى هل هذه هي الحقيقة ؟ أم هناك رابطا ما يجمع هذا ( المشبوه ) بهذه المرأة وبأولئك الأغنياء ؟

تفسير أحلام أدى غرضه , فبعد أن انفرط عقد السهرة بأسبوع اتصل طارق بأحلام التي دعته إلى العشاء في منزلها فذهب وتعشى ونام ليلته هناك . كان شعوره في تلك الليلة فورا برجولته . فها هو يقفز فوق شذوذه , و تعجب به أحلام كرجل , فلا يخبرها عن شذوذه بالطبع و لم يدر في خلد الفتى أن أحلام تعرف عنه كل شيء من أحمد , صارت أحلام بالنسبة إليه حلما و متنفسا رجوليا له , يستعيض به عن ماضيه الشاذ مع الرسام والثري سعيد . و ذات سهرة في بيت أحلام , وكان هنالك أخوها إبراهيم الذي يعمل مدرسا سأل إبراهيم طارق : إلى أي عائلة تنتمي ؟

ورد طارق :

- عائلة الحمدان .

ضحك إبراهيم وسرح , فاستغرب طارق ضحكته و شعر بالإهانة فقال له :

- و ما الذي يضحكك ؟

فقال إبراهيم :

- لا تغضب , ولكنني تذكرت أن أحلام اتهمت من قبل بأنها عميلة للمخابرات الإسرائيلية , كما اتهم معها آنذاك رجل من عائلة الحمدان .

دهش طارق إلى أحلام مستوضحا بانفعال شديد , فهدأت من روعه بقولها :

- لا تصدقه , إنه يهذي . فهو ثمل لا يعرف ماذا يقول :

لم يقتنع طارق بقولها , وظل كلام إبراهيم يدور في نفسه إلى أن فاتحها بعد يومين من تلك الأمسية قائلا :

- أحلام لقد قلت لي أن إبراهيم ثمل , لكن الثمل غالبا ما يقول الحقيقة . فما قصة المخابرات الإسرائيلية ؟

و ردت أحلام تطمئنه .

- القصة سخيفة . كنت على علاقة صداقة مع شخص من عائلة الحمدان فعلا , كان يملك ملهى " الكاسبا " في فندق " الكومودور " في الستينات و تبين أنه عميل للمخابرات الإسرائيلية فسجن وبعد خروجه من السجن غادر لبنان , ولم أسمع عنه شيئا منذ ذلك الوقت .

- هل هذا كل شيء ؟

نعم و لماذا أكذب عليك ؟

اكتفى طارق بهذا التفسير ليصدق أحلام فم يكن ليهتم من قريب أو بعيد بالمخابرات الإسرائيلية , كل ما كان يريده امرأة جميلة و سرير دافئ يكفلان له وضعا مزيفا يعلو به فوق حماة الشذوذ الذي يعاني منه .

كان بحاجة إليها , كما ظن أنها هي الأخرى بحاجة إليه لغياب زوجها الطويل في إفريقيا الذي يفضل السوداوات ويلعب القمار في لندن علما بان هذا هو الزوج الثاني لها وقد سبق وتزوجت هي الأخرى من رجل يعمل في نيجيريا .

لكن سعادة طارق بأحلام لم تدم طويلا ,فقد سافرت إلى لندن بعد أن

أعطته عنوانها هناك ورقم هاتفها. شعر بالفراغ والألم في غيابها، فصار يقضي وقتاً طويلاً معها على الهاتف.

تعذب ، وفقد طعم الحياة ، وتمنى لو أن في مقدوره السفر إلى لندن والحياة معها وبينما كان يحادثها على الهاتف في أحد الأيام يشكو لها حبه وعذابه ، قالت له فجأة وبلا مقدمات.

-ولا يهمك. غداً سأرسل إليك تذكرة سفر بيروت- لندن- بيروت. وما عليك إلا أن تحصل على تأشيرة دخول من السفارة البريطانية وتأتي ، وأنا سأرتب كل شيء من هنا.

-كان يطير من الفرح، ولم يصدق، إنها تحبه كما يحبها وأكثر، أخبر الأهل بأنه سيذهب إلى لندن للتجارة والعمل ، وافق الوالدان وجاءت التذاكر وحصل على التأشيرة ، وما هو الآن في مطار بيروت يستعد للركوب في طائرة " الميدل ايست" إلى " عاصمة الضباب".

في مطار هيثرو كانت آمال ابنة أحلام تنتظره بابتسامة عريضة دافئة ذكرته بذلك اليوم الذي أمضياه معا في بيروت حين جاءت من نيجيريا إثر خلاف لها مع زوجها ، فقد سكنت مع والدتها في الشقة و تعرفت على طارق هناك وذات ليلة بينما كان يقف أمام مبنى جريدة " النهار" ينتظره والده ، مرت أمال بسيارتها فلمحته ولمحها فتوقفت وصعد معها إلى السيارة بعد أن أخبر والده بأنه قد يتأخر هذه الليلة.

كانت آمال ليلتها في حالة نفسية سيئة ، سألها؟

- إلى أين أنت ذاهبة في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟

فقالت: لا مكان محدد. أريد فقط أن أتجول في الشوارع هكذا بلا هدف . وليتك ترافقني.

- تعال نقضي الليلة في فندق " الكومودور" معاً.

- بلع ريقه وهو يناول موظف الاستقبال مئة ليرة ليخصص لهما غرفة حيث ناما حتى الصباح . وحين أفاق صباح اليوم التالي كان طارق يشعر بأن رجولته قد ردت إليه أو معظمها على الأقل.

كان أكثر ما يهمه أن يثبت رجولته لامرأة ،كأنما لثباتها لامرأة يثبتها أمام نفسه وضميره.

وطار طارق إلى لندن بعد ذلك وكانت آمال في انتظاره.

المصيدة

أوصلته آمال من المطار إلى شقة أحلام وكان كذلك في شهر أكتوبر

( تشرين الأول ) 1978 . وعرف من آمال أنها تسكن في شقة أخرى في العمارة نفسها التي تسكن فيها والدتها . أقام في شقة أحلام ثلاث أيام إلى أن وجدت له شقة مناسبة في العمارة نفسها ومقابل شقة أمال بالضبط دفعت أحلام إيجار الشقة وناولته مبلغا من المال لمصاريفه اليومية .

أخذته الأم وابنتها إلى أحد الملاهي فصار يقضى وقته بين الملهى والسينما وأحلام وآمال . وقليلا ما يتسكع في شوارع لندن . في الأسبوع الثالث من وصوله . وبينما كان يتمشى في إحدى الشوارع القريبة من العمارة دخل ألي حانة ليتناول بعض الشراب . بعد برهة دخل رجل تدل سحنته على أنه عربي وطلب شرابا مثله وجلس على مقربة منه . ثم ما لبث الرجل أن التفت إلى طارق سائلا

بلطف : الأخ عربي ؟

- نعم

- فقال الرجل :

- من أين ؟

- لبناني

ودار بينهما حديث عادى حول لندن والطقس والحياة في هذه المدينة الباردة , استطاع طارق أن يلاحظ شفى لهجة الرجل العربية لكنة أجنبية غير واضحة تماما وعاد الغريب يسأل :

- هل أنت هنا فى عمل أم سياحة ؟

- رد طارق باقتضاب : سياحة .

عندئذ قال الرجل :

- أنا تاجر قماش مقيم هنا في لندن , دعنا نتقابل بين الحين والحين .

فرح طارق بالتعرف على هذا الرجل الدمث وتمنى في قرارة نفسه أن يجد عملا له معه يبقيه في لندن , خصوصا عندما سأله الرجل إن كان لديه هاتف فقال طارق على الفور "هذا هو اسمي ورقم الهاتف اتصل بي في أي وقت " شكره الرجل وقال له " أنا اسمي زكى وسوف أتصل بك إن شاء

الله " ثم نهض ودفع الحساب وانصرف .

بعد عودته إلى الشقة بقليل اتصلت به أحلام وطلبت منه أن يسهر عندها تلك

الليلة . ثم سألته بعد العشاء :

- ماذا تفعل بالنهار ؟

- فقال : لا شيء أتسكع في الشوارع على غير هدى , ان لندن مدينة

جميلة .

- ألم تتعرف على أحد ؟

- لا أبدا .

لم يذكر لها عن زكى لثقته بأن الأمر لا يستحق أن يذكر إلا أن دعوة أحلام له لقضاء السهرة في تلك الليلة كانت مقصودة لاختبار قدرته على الثرثرة ولم يكن يدرى أنه بإجابته تلك قد سجل نقطة إيجابية لصالحه .

بعد يومين اتصل به زكى ودعاه لتناول الغداء في فندق " ذه وست مورلاند فلور " الساعة الواحدة , فذهب طارق شفى الموعد المحدد تماما , لكن زكى لم يحضر إلا بعد نصف ساعة معتذرا عن تأخيره بسبب ازدحام السير والمرور شفى تلك الساعة .

والواقع أن المرور لم يكن سببا في تأخير زكى بل هو تأخر تمليه الاحتياطات الأمنية التي توعد الرجل باتخاذها بشكل دائم . كذلك كان الاحتياط الأمني هاجسه وهو يجلس بظهره إلى الحائط كاشفا كل شئ أمامه بينما طارق لا يرى غير الحائط وزكى .

دار الحديث على الطعام عاديا حول لندن وأوضاع لندن .

ويبدو أن جلسة تقييم الثانية كانت إيجابية , إذ قال زكى لطارق وهو يودعه " سأحاول أن أجد لك عملا هنا " . ثم دفع الحساب وانصرف وهو يقول "سأتصل بك قريبا " ولم يحاول طارق أن يطلب من زكى رقم هاتفه مع أنه فكر في ذلك . فهو يريد أن يستعجل الحصول على الوظيفة .

كان التقييم يتم من قبل زكى بسرعة لشخصية طارق , فهو زكى يركض خلف الشهوات والنزوات , إذ لاحظ زكى أنه غازل بعينه وابتساماته كانت تجلس إلى طاولة مجاورة بالمطعم قبل أن ينهره زكى . ثم انه شاذ جنسيا وهذه نقطة ضعف مناسبة جدا لاختراقه والضغط عليه , خصوصا أنه يحمل اعتبارا كبيرا لأهله وعائلته وأصدقائه وستكون مصيبة المصائب في نظره إذا اكتشفت أمر شذوذه ونقطة الضعف الثانية قلة المال بين يديه , فهو من عائلة متوسطة الحال ومستعد لعمل أي شئ من أجل الحصول على المال . ثم هناك علاقته ببعض الأثرياء . والأهم من ذلك كله علاقته القوية بأحد مسئولي منظمة " الصاعقة " المعادية لإسرائيل ومعرفته لمعظم العاملين والمسئولين فيها .

دعوة إلى العشاء

بعد أيام ثلاثة هتف له زكى يدعو للعشاء في مطعم " البستان " وقال له أنه سيتأخر قليلاً ويفضل أن يتم الحجز باسمه هو . فقال طارق.

- اسمي طارق الحمدان .

فقال زكى :

- واسمك الثلاثي .

- طارق أحمد الحمدان .

من الطبيعة أن لا يحتاج زكى لاسم طارق الثلاثي أو الثنائي أو حتى الأول لإجراء الحجز . ولكنه أراد طارق أن يقول له اسمه الثلاثي لغاية شفى نفس يعقوب لم يدركها صاحبنا .

خصوصا أن زكى عاود الاتصال بطارق قبل الموعد المحدد ليخبره أنه ألغى حجز" البستان " لأنه جد مشغول . وفى وسعهما بدلاً من ذلك تناول العشاء شفى مطعم فندق " ليونارد " القريب من مكتب زكى . ولما وافق طارق طلب منه زكى أن يتوجه من فوره إلى الفندق المذكور لأنه بعيداً نوعا ما , امتثل طارق لرغبة زكى واستقل سيارة تاكسي إلى حيث

الموعد .

كان زكى ينتظره في إحدى زوايا المطعم , وأثناء العشاء قال زكى : " أنا مضطر للسفر غدا إلى إيطاليا لإحضار بعض الأقمشة والموديلات من هناك , ولن أغيب أكثر من أسبوع " . ثم تشعب الحديث ليطول الأوضاع في لبنان والطقس في لندن وتجارة الأقمشة والثياب . بعد العشاء نهض زكى ودفع الحساب ثم ودع طارق وخرج .

لم يلاحظ زكى أن زكى في كل مرة يخرج قبله, وحين يخرج هو بعده لم يجد له أثراً . ثم أنه لم يفكر مطلقاً في ير هذه الدعوات المتكررة إلى المطاعم , وان فكر في ذلك اعتقد أن الرجل رأى فيه برغم فارق السن مشروع صديق في هذه الغربة التي يعيشها في لندن . وكونه يدفع الحساب في كل مرة لا يعد أن زكى رجل كريم وتاجر . بينما هو عاطل عن

العمل .

بعد ثلاثة أيام من عشاء الفندق فوجئ طارق بزكى على الهاتف يخبره بأنه أنهى عمله بسرعة وعاد إلى لندن وهو يدعوه لقضاء السهرة عنده مع عدد آخر من الضيوف . ولمل لم يكن طارق على علم بعنوان زكى قال له هذا الأخير " سأمر لآخذك بالسيارة " . انتظرني في نهاية شارع كرومويل رود الساعة الثامنة والنصف " .

في تمام الساعة الثامنة والنصف توقف زكى وصعد طارق بجواره بالسيارة وتوجها إلى أحد العمارات المطلة على هايد بارك . فتح زكى باب العمارة الخارجي بمفتاح معه وصعد السلم أمام طارق وبيده سلسلة مفاتيح حيث فتح باب إحدى الشقق . وجلسا في الصالون يشربان ويتحدثان عن إيطاليا ولندن والأقمشة . بعد حوالي الساعة دق جرس الباب , فنهض زكى وكبس على زر المايكروفون وتحدث ببضع كلمات بال إنجليزية ثم انتظر قليلاً حتى طرق باب الشقة ففتحه ليدخل رجلان وفتاتان , أحدهما أشقر الشعر طويل عمره لا يتجاوز 27 عاماً ,أما الآخر في الأربعين من عمره أسمر اللون وشعره خفيف أقرب إلى الصلع وأما الفتاتان فلا يتجاوز كل منهما العشرين سنة , تتمتعان بجمال وافر , شقراوان فيهما إغراء وعدم كلفة جلست إحداهما بجواره بعد التعارف , تبادل معهما الحديث والنكتات واللمسات .

مال زكى على أذنه هامساً :

- طارق , بإمكانك أن تأخذها إلى غرفة النوم تلك . اعتبر البيت بيتك فرح بكلام زكى وأقنع الفتاة بالقيام معه . كان رأسه يؤلمه بشكل كبير . وعندما أوقظه زكى في الصباح وجد نفسه وحيداً بالفراش , إذ يبدو أن الفتاة ذهبت , أحس برأسه يكاد ينفلق من الصداع لبس ثيابه وطلب له زكى سيارة تاكسي وأوصلته إلى شقته .

وبعد أربعة أيام اتصل به زكى مجدداً يسأله :

- هل استمتعت بالسهرة ؟

- كانت جميلة جداً والفتاة كانت أجمل .

- بسيطة . هل أنت على استعداد لسهرة أخرى مثلها ؟

بالتأكيد . متى ؟

- عند جماعة أصحابي .

- " أوكى لا مانع منى نتقابل؟

- سأمر عليك بالثامنة مساء , انتظرن أمام عمارتك . في ضاحية لندن

في الثامنة مساء نزل طارق ليجد زكى بانتظاره في السيارة حيث توجه به إلى إحدى ضواحي لندن . توقفا في شارع جانبي وتمشيا حتى وصلا إلى عمارة من أربع طوابق . دق زكى الجرس ففتح الباب ودخلا حتى وصلا إحدى الشقق قرع الجرس وما إن فتح باب الشقة حتى رأى طارق ثلاثة رجال وثلاثة نساء , ليس بينهم أي شخص ممن كان في السهرة السابقة , الفتيات جميلات والدخان يملأ الغرفة . شرب معهم وانبسطت أساريره وهو لا يصدق وجوده في مثل هذا الجو شعر بالامتنان لزكى وهو يميل عليه قائلاً :

- أراك معجبا بجانيت خذها إلى تلك الغرفة ستجد فيها سريراً كبيرا واعتبر نفسك كأنك في بيتي فهم أصحابي الخلص .

كان يريد مثل هذه الإشارة من زكى فجانيت جاهزة ضحكت وهى تقوم معه إلي الغرفة وفى الساعة الثالثة فجرا كان زكى يوقظه :

- قم , هل تريد أن تنام هنا عند الجماعة ؟

نهض بتثاقل شديد , فالصداع يكاد يمزق رأسه , انه يشرب باستمرار ولم يحدث له أن شعر بمثل هذا الصداع , فتح عينيه بصعوبة ليجد الفتاة تغط في النوم بجواره , حاول أن يلبس ثيابه فلن يستطع , ساعده زكى وهو يقول ضاحكاً :

- إذا لم تكن " قد المشروب " فلا تكررها .

لم يكن في حاله تلك قادراً على الإجابة , فسكت مع أنه ود أن يخبره بأنه يشرب عادة أضعاف ما شربه في تلك الليلة ولا يحدث له شئ من هذا القبيل .

هذه المرة أوصله زكى بالتاكسي إلى شقته و أدخله إلى سريره قبل أن ينصرف , كما كاد ينسى أحلام بعد أن فتح له زكي أجواء جديدة , و بعد أن جاء زوجها إلى لندن , فكانت تتصل به بين الحين و الآخر معاتبة : " طارق , أوعى تكون صاحبت امرأة غيري " .

فيرد عليها قائلا : " وهل هذا معقول يا أحلام " .

و كان حين يذهب زوجها إلى الملهى يذهب هو إلى شقتها ساعة أو ساعتين ثم يخرج .

مفاجأة صاعقة

خفق قلبه بعد أن أخبره زكي بعد أيام أن مندوب شركته في بلجيكا وصل إلى لندن مع زوجته ويجب أن يعرفه عليه , و كم فرح عندما جاء زكي يصطحبه بسيارته إلى إحدى الشقق المفروشة في لندن , حيث وجد هناك مندوب الشركة في بلجيكا و زوجته التي تقترب من الأربعين , رحب المندوب بطارق كما رحبت به الزوجة بحرارة , بعد برهة دق الجرس و دخل شاب رياضي , تحادثوا قليلا و تعارفوا قبل النهوض إلى مائدة العشاء فعرف أن الزوجة التي جلست بجواره أسبانية حدثته عن ماضي العرب و أماكنهم في أسبانيا , بعد عشاء وضعت موسيقى صاخبة و بدا أنها ثملت فقامت ترقص بينما زكي و البلجيكي يتحدثان همسا فانزعجا من صوت الموسيقى فقال لها زوجها : " اخفضي الصوت قليلا " فردت عليه بغضب : " أنا أحب هذه الموسيقى و أريد أن أرقص عليها مع طارق " فقال الزوج " حسنا خذي الموسيقى وطارق و اذهبا إلى إحدى الغرف " .

و كان المرأة كانت تنتظر مثل هذه الإجابة فأخذت المسجل و قالت لطارق : هيا بنا .

ذهب معها طارق إلى إحدى الغرف و أخذا يرقصان و هما في قمة النشوة بينما زكي وزوجها يتحدثان في الصالون على راحتهما .

فتح عينيه في الفجر بصعوبة على زكي وهو يهزه بقوة قائلا :

- ما هذا يا طارق ؟ الرجل نائم في الصالون و أنت هنا مع زوجته .

هيا بنا قم بسرعة نهض برأسه المتعب وجسده الثقيل يجر قدميه جرا حتى كاد زكي يحمله حملا إلى التاكسي .

و مرت أيام لم يدعه زكي إلى سهرة جديدة و لا حتى غداء .

كان يتصل به باستمرار و يسأله عن نفسه و أحواله و عن الصداع الذي يصيبه , خصوصاً أن طارق صار يتقيأ بين الحين والآخر والصداع لا يفارقه .

بعد أسبوع دعاه زكى على الغداء , وفى البداية سأله عن حاله . ولما لعن طارق الصداع قال له زكى : " انه المشروب والأفضل أن لا تشرب " .

فرد طارق :

- ليس المشروب , فأنا معتاد عليه في بيروت .

- هل تعرف ضباطاً في منظمة التحرير الفلسطينية ؟

دهش طارق وتسارعت دقات قلبه للسؤال الغريب المفاجئ . وبشعور عفو رد قائلاً باقتضاب :

- لا .

فقال زكى :

- لا بد أنك تعرف بعضهم أو إحداهم على الأقل .

تمالك طارق زمام نفسه وهو يسأل :

- لماذا ؟

فقال زكى بحزم وهو يرمقه بحدة :

- من الأفضل لك ولنا أن تعرف أحدهم .

- أنت من ؟

فقال زكى بهدوء :

- نحن " الموساد " المخابرات الإسرائيلية !

صعق الفتى ولم يعطه زكى وقتاً كافياً ليفيق من صدمته , إذ أخرج من جيبه مغلفاً كبيراً ألقاه أمام طارق وخرج . ففتح طارق المغلف بسرعة ووجد مفاجأة صاعقة في داخله فمادت الأرض تحت قدميه . ماذا في المغلف وما هي المفاجأة ؟

الفصل الثالث

العملية الأولى في بيروت

صعق طارق و صار الدم يجري في عروقه كالعجين , فهذا زكي الرجل الخمسيني الطيب يتحول فجأة إلى ذئب كاسر , شعر بان المغلف يحتوي على مصيبة لكنه لم يجد بدا من فتحه , خصوصا أن زكي قد ذهب وركه وحده يبلع ريقه ومرارته وخوفه , فقد هزته كلمة الموساد و أصابته بقشعريرة في الجلد والدم .

مدي يده وتناول لمظروف وفتحه فإذا هو يحتوي على صور له في أوضاع مخجلة , ها هو يظهر بوضوح في الصور في مواقف شاذة مع شباب ورجال أجانب , تذكر لشاب الرياضي في سهرة المندوب البلجيكي , هذا هو نفسه الذي يقف خلفه في ذلك الوضع الشاذ الذي يعرق له الجبين .

أخذ طارق يرتجف بشكل لا إرادي , خرج من المطعم حاملا المغلف بيده وهو لا يدري كيف حصل ذلك , كل ما يذكره انه كان يختلي بالنساء في تلك السهرات فكيف يجيئه الرجال من حيث لا يدري و لا يعرف ؟ تذكر وجع الرأس الذي كان يصيبه في السهرات الحمراء تلك , مشى وحيدا في الشوارع , تسكع بلا هدف , رأسه يكاد ينفجر , فقد خيل إليه في لحظة أنه نسي شذوذه واسترد شيئا من رجولته الضائعة . لا أحد في لندن يستطيع أن يتحدث معه في مثل هذا الموضوع . خطرت أحلام في خاطره , وظن أنه يستطيع أن يحدثها في ذلك الأمر , وكيف ضحك عليه وكيف خدع , لكنه اكتشف , بعد إمعان في التفكير أن أحلام دهى آتى تقف خلف ما حدث له , فقد تذكر ما قاله أخوها إبراهيم من أنها اتهمت بالتعامل مع المخابرات الإسرائيلية , وحاول أن يربط التفاصيل الصغيرة بعضها مع بعض , فهل انقطع الرجال في لندن لتأتى به من بيروت على حسابها وتسكنه في شقة في عمارتها وتدفع له الإيجار والمصاريف , ولا تراه إلا نادراً ؟ هل يعقل ذلك , أم أنها هي التي دبرت كل شئ , وهى على اتصال بزكى منذ

البداية ؟

أحس بأن الأرض تدور به , ولا بد أنهم وضعوا له مخدراً في الطعام والمشروب . وإلا ما معنى الوجع الحاد شفى الرأس وعدم قدرته على الوقوف ولبس ثيابه لدرجة أنه يحتاج لمساعدة زكى كلى يلبسه البنطلون ؟

وصل طارق إلى شقته , وألقى بنفسه على السرير بكامل ثيابه حاول أن ينام فلم يستطع . نهض تمشى في الغرفة جيئة وذهاباً . صنع فنجاناً من القهوة وشربه , لكن رأسه ظل يدور . صب لنفسه كأساً من الشراب وتناوله دفعة واحدة , واتبعه بثان وثالث وارتمى على السرير يبكى ويبكى . ود لو أنه يستطع أن يقتل نفسه ويرتاح فيريح أهله من الفضيحة والإحراج فماذا لو صلت هذه الصور إلى أهله ؟ ما الذي يفعله أبوه وأخوته ؟ ضرب رأسه بيده وهو يبكى . فكر في أن يصعد إلى شقة أحلام فيخنقها بيديه , فهي السبب وعاد شريط لقائه بها إلى ذاكرته منذ البداية في مطعم نصر , ولم يصدق أن ذلك اللقاء كان مرتباً . كيف يعرفون كل ذلك ؟ وسرح تفكيره في الرسام : هل هو أيضاً مخابرات إسرائيلية ؟ وسعيد والآخرون ؟ ولم يصدق ثم فجأة , رن الهاتف , فظن أنها أحلام , ولم يكن في حالة تساعد على الحديث , فلم ينهض . لكن الهاتف ظل يرن بإصرار فقام متثاقلاً . رفع السماعة قائلاً :

- هالو .

وجاء الصوت قويا حاداً كالمسمار :

- كيف حالك اليوم ؟

كان زكى على الخط . فوجئ طارق به ولم يدر كيف يرد عليه , فصمت ولم يجد جواباً . هل يقول له أنه بخير , أم يشتمه ؟ ولم يتركه زكى فى حيرته طويلاً فاستطرد :

- اسمع أريدك في مكتبي الآن .

فقال طارق بذل :

- وأين مكتبك ؟

فقال زكى :

- ستعرفه لو فكرت قليلاً واستعملت عقلك .

حاول أن يفكر , إلا أن رأسه كان مزدحماً بالأفكار المتناقضة و الغضب المكتوم .

فقال :

- لا أعرف أين مكتبك .

فرد عليه زكى :

- فكر.

ولم يكن بحاجة للتفكير فعلاً . تذكر أنه يكلم زكى , ضابط المخابرات الإسرائيلية فقال :

- تقصد سفارتكم ؟ !

فقال زكى ببرود :

- برافو هل تعرف العنوان ؟

فأجاب بسرعة :

- لا.

فقال زكى :

- عندك في الشقة دليل التلفون . ابحث عن اسم السفارة فستجد العنوان . خذ تاكسي على الفور , وقل لهم على الباب أنك تريد مقابلتي وأن اسمك فلان .

في السفارة الإسرائيلية

وضع طارق السماعة وتناول دليل التلفون وأخذ يبحث تحت باب " سفارات " عن السفارة الإسرائيلية حتى وجده , فقام على الفور وأوقف سيارة تاكسي وقال لسائقها : " كنزجتون من فضلك .. بالاس جرين" ! وحين رأى علم السفارة الإسرائيلية قال للسائق : " هنا من فضلك " . دفع الأجرة وأخذ يتطلع حوله نحو الباب الرئيسي ضغط على الجرس قائلاً في

" الانترفون " أريد مقابلة زكى , فوق رأسه رأى كاميرا مثبتة . تطلع فيها لحظة فإذا بالباب يفتح أوتوماتيكياً , دخل الحديقة ومنها عبر إلى حجرة صغيرة يقف في بابها رجل أم نفى يده آلة . فتشه الرجل بيديه وبالآلة تفتيشا دقيقاً , ثم أخذ منه علبة السجائر ففتحها وأخرج محتوياتها ثم تحسسها قبل أن يعيد إليه السجائر وكذلك فعل بالولاعة : فتحها وتفحصها ثم أعادها إليه وهو يشير إلى رجل أمن آخر يجلس في الغرفة على أحد المقاعد الصغيرة , وهو الذي قال لطارق : " اتبعني " فتبعه إلى غرفة أخرى قبل أن يصعد إلى أعلى . وأمام أحد الأبواب المغلقة وقف رجل الأمن وخلفه طارق , قرع الباب قبل أن يفتحه , فإذا زكى يجلس أمام مكتبه . وما إن رأى طارق حتى نهض وهو يبتسم ماداً يده مصافحاً , في الوقت الذي انصرف فيه رجل الأمن . مد طارق يده بفتور وخجل مذل وصافح الذئب الضاحك , الذي أجلسه على كرسى أمام مكتبه وهو يقول :

- كيف حالك ؟

فقال طارق بانكسار :

- أريد " نيجاتيف " الصور .

ضحك زكى الذي كان يشعر بفرح غامر في داخله لطلب طارق ومجيئه إليه في السفارة . قد تيقن أن الفتى قد وقع الآن , فعدا عن الصور الشاذة أصبحت لديه الآن صور لطارق على مدخل السفارة وفى غرفة رجال الأمن وفى مكتبه أيضاً . فقال لطارق :

- وماذا تريد من " النيجاتيف " انه محفوظة في أمان .

فقال طارق وهو يغالب دموعه :

- لماذا فعلت معي هذا ؟

فقال زكى وهو يبتسم بلؤم :

- وما الذي فعلته معك ؟ لقد فعلنا معك ما تريد وما تحب , ألم تفعل ذلك في بيروت برضاك ؟ أما إذا كان خوفك من الصور و " النيجاتيف " فلا تخف لأنها لم تصل إلى يد أي مخلوق إذا ما تعاونت معنا بإخلاص . أما إذا حاولت أن تلعب بذيلك فسوف تصل منها نسخ كثيرة إلى أهلك وكل أصدقائك ومعارفك .

- وماذا تريد منى ؟

- لا أريد الكثير , ولكنني أريد الحقيقة . وأريدك أن تتعامل نعى بصدق واخلاص .

ثم تناول من فوق مكتبه دفتراً كبيرا وقلما وقال لطارق :

- خذ هذه واكتب الآن كل شئ عن حياتك , منذ كنت في المدرسة والى أن أتيت إلى لندن . يعنى لا تنسى شيئاً منذ خلقت حتى هذه اللحظة , كعلاقتك مع الرسام والأثرياء العرب في بيروت والمنظمات الفلسطينية .

ذهل طارق لمعرفة زكى بكل هذه الأمور عنه أنه لم يذكر له أي شئ عنها . وتذكر أن أحلام هي الفتاة آتى كانت تتسقط أخباره , والتي منها يأخذ زكى المعلومات عنه . فقال :

- إذا كنتم تعرفون كل ذلك عنى فلماذا تريدني أن اكتب لك كل شئ ؟ ما

الذي ستستفيده ؟

نهض زكى عن مقعده وهو يقول بحزم :

- ابتداءً من هذه اللحظة أنت لا تسال ولا تستعمل كلمة " لماذا " أبدا . عليك

أن تنفذ فقط ما يقال لك .

هاج صدره بالغضب ! وانكب على الورق يكتب كل شئ عن حياته وأهله وعلاقاته ومخازيه بالتفصيل . وما إن انتهى من الكتابة حتى دفع بالأوراق باتجاه زكى الذي رمقه بنظراته النافذة قائلاً : " نريدك أن تذهب إلى بيروت وتعود إلينا بعد شهر , وإياك أن لا تعود معتقدا أنك هناك في أمان بعيدا عنا . يجب أن تعلم أن يدنا طويلة لو كنت في آخر الأرض أو تحت الأرض , فاهم ؟ ! " .

بداية اللعبة

أومأ طارق برأسه وهو يفكر كيف وقع في هذه الورطة . كان ينظر بعينه نحو المستقبل فلا يجد لنفسه خلاصاً . لقد وقع في الفخ . وها هو قد كتب لهم كل معارفه من أثرياء وغير أثرياء . هل سيبتزونهم أيضاً كما ابتزوه ؟ وهل سعيد عميل لهم ؟ وإذا لم يكن , فمن المؤكد أنهم يسعون إليه ويوقعونه بالفخ كما

أوقعوه , وسيوقعون الكثيرين , " تبا لهم من شياطين أوغاد " يلبسون لبوس الأصدقاء ويتقنعون بالطيبة , يتكلمون لغتنا العربية ويتقنعون بالطيبة و يتكلمون لغتنا العربية ويتقنون لهجاتنا المختلفة . يبحثون عن نقاط ضعف فينا . ويضربون ضربتهم . ها أنا قد خسرت الكثير لكن بقى لي أن صورتي لدى أهلي ما زالت نقية , فلأحافظ على هذه الصورة في عيونهم على الأقل , " لأن أمي وأبى سيموتان قهراً لو عرفا أنني شاذ وأبى قد يقتل نفسه قبل أن يخرج إلى الشارع ليراه الناس فيتضاحكون عليه وهم يشيرون إليه بقولهم : هذه أبو طارق المسكين ابنه كذا وكذا . وأخوتي , ماذا سيفعلن وهل سيتركهن الناس في حالهن ؟ سيقولون الكثير وسيقلبون حياتهم إلى جحيم . إلا ليتني خلقت بنتاً قبل هذه الأمر , فرت الدمعة من عينيه وهو يتذكر أهله فرداً فرداً .

ولم يفكر طارق في أهله كيف سيكون حالهم فيما لو عمل مع المخابرات الإسرائيلية واكتشف أمره . ما الذي سيحصل لوالده حين تظهر حقيقته كجاسوس خائن لأمته وأهله وعروبته ووطنه إضافة إلى شذوذه . كان كل همه محصوراً في الحاضر . إذا لم يتعاون فانهم سيرسلون صوره الخليعة إلى أهله وأصدقائه ومعارفه . فأين يضع رأسه بعد ذلك ؟ كان المهم عنده في تلك اللحظة أن يستر الحاضر وواقعه المخجل تاركاً المستقبل للأيام , والمخابرات الإسرائيلية وقدرتها على كتمان السر والمحافظة على عملائها .

أخرجه زكى من تأملاته قائلاً :

- اسمعني جيداً , منذ الآن سيكون اسمك جونسون , واتصالاتنا ستكون سرية فحين تصل إلى لندن , ابحث عن تلفون السفارة في الدليل . لا تحمل الرقم معك أبداً وعندما ترد عليك عاملة الهاتف في السفارة قل لها : أنا جونسون وأريد زكى . وأعطها رقم هاتفك ولا تزد . فاهم ؟

أومأ طارق برأسه وعلامات القرف ترتسم على وجهه لقول زكى " يا شيخ المشايخ " .

وهناك قال زكى :

- لكنك ستعطيها رقم هاتفك بالشيفرة حتى إذا ما سمعه أحد لن يفهم منه شيئاً , وسوف نعلمك طريقة الشيفرة في الوقت المناسب .وبعد أن تترك هذه الرسالة القصيرة مع عاملة الهاتف لا تفعل شيئاً ولا تحاول الاتصال لأنني سأتصل بك في الوقت المناسب لترتيب موعد للقائنا . ويجب أن تتقيد بكل ما أقوله لك لأنه ضروري لأمنك وحمايتك .

بدأ طارق يدخل في اللعبة . فقد استهوته مسألة الشيفرة , وهذه التعقيدات المخابراتية وظن أنه سيكون جاسوساً من نوع جيمس بوند , وعاود زكى يقول : حين تذهب إلى بيروت , أريدك أن تفتح عينيك وأذنيك جيداً , وتتعرف على الضباط الفلسطينيين في منظمة التحرير الفلسطينية . وأي ضابط تعرفه أو تتعرف عليه , ادرس أحواله جيداً : كيف يفكر وكيف يعيش وهل هو متزوج أم أعزب وكم عدد أولاده , وما هي أسماؤهم وأعمارهم ؟ وزوجته كيف تعيش ؟ وأهله وأقرباؤه ؟ وكم يتقاضى راتباً , وكيف يصرف على نفسه وعمله وعائلته وهواياته ,وأي الصحف يقرأ . وما هي الأخبار التي تهمه , وإذا قرأ خبراً في صحيفة هل يناقشه أو أنه يأخذه كما هو ثم هل هو متزن أم متهور ؟ وأصدقاؤه ؟ كل ما يمكن أن تجمعه من أخبار يا شيخ المشايخ فهمت :

مرة أخرى أومأ طارق برأسه قبل أن يستطرد زكى قائلاً :

- افعل هذه الأمور البسيطة , دون أن تلفت إليك الأنظار .

ثم فتح زكى درج مكتبه وأخرج منه مظروفاً أصغر متوسط الحجم ألقاه أمام طارق قائلاً :

- إلى اللقاء بعد شهر يا شيخ المشايخ , ولا تنس أن اسمك جونسون في الهاتف .

إلى بيروت

وصل طارق إلى بيروت وهو يفكر طيلة الوقت بالنقيب خليل , مسؤول أمن "13 " في الحمراء . وحيت توجه إليه صباح اليوم التالي , أحس برجفة تسرى في بدنه , وحين عانقه تمنى لو أنه يستطيع إخباره بكل شئ لكنه فكر في شذوذه وفى الصور التي يحتفظ بها زكى , وفى أهله , فعدل عن تلك الرغبة التي راودته للحظة . شربا قهوة في المكتب وتحدثا عن لندن ونسائها والحياة فيها , ثم عن بيروت وأحوالها . وعرجا على الأمور الشخصية فتحدث خليل عن الشئون المادية . وعند الظهر ذهبا إلى المطعم الصغير الكائن شفى جوار مبنى جريدة " النهار " حيث تناولا الغداء وتواعدا على اللقاء في اليوم التالي.

تعددت اللقاءات , وتعددت الخدمات بينهما , صارا صديقين حميمين يتغذيان معا ويلعبان " الفليبر " معاً . وكان خليل دائماً يبدى استعداداً لحماية طارق من كل مكروه . حدثه عن زوجته القديمة وعن أولاده , وزوجته الجديدة , بل إن خليل دعا طارق إلى فنجان قهوة في غرفته التي يستأجرها على السطوح , حيث تعرف على زوجته اللبنانية الجديدة وأدرك طارق أحوال خليل المادية ليست على ما يرام .

حان موعد السفر إلى لندن , تأمل طارق المعلومات التي سيأخذها معه فوجد أنها تافهة ولا تستحق . فكل ما لديه من معلومات لا يتعدى

الشخصية : ضابط في منظمة الصاعقة .. الجنسية متزوج مرتين وله ولد واحد .. مسئول الأمن في مكتب" 13"- منطقة الحمراء ومتهور وقراءته قليلة جداً ولا يناقش الأمور , وأية أخبار تصله ينقلها كما هي ولا يحلل أخبار الجرائد . ولا يحاول النظر في العمق ولا في ما هو أبعد , يقضى أكثر من أربع ساعات يومياً في لعب " الفليبر " فهل هذه معلومات تستحق أن تدفع فيها إسرائيل كل هذه المصاريف من تذاكر وسفر وشقق في لندن ومشروب ونساء ودولارات ؟ وللحظة , أعتقد أن الإسرائيليين أغبياء وان في " الموساد " ضباطاً كل همهم تسجيل مواقف وأعمال تبريراً لما يلهفونه من فلوس . فإذا أعطاه زكى 350 دولارا , فانه بالتأكيد يكون قد سجل أنه أعطاه 2500 دولار .

في مطار هيثرو ركب قطار " الاندرجراوند " إلى نايتسبردج. ومن هناك استقل سيارة تاكسي إلى العمارة التي كان يسكن فيها حيث وجد شقته في انتظاره , إيجارها مدفوع والبواب يحتفظ له بالمفتاح . تمدد في الشقة قليلاً ثم نهض واغتسل ونزل إلى الشارع يبحث عن هاتف عمومي . اتصل بالسفارة قائلاً : " أنا جونسون وهذا رقم هاتف ... أريد أن أتحدث مع زكى لو سمحت , ثم أقفل الخط وعاد إلي الشقة ينتظر . حوالة التاسعة مساء قفز من السرير كالملدوغ حين رن جرس الهاتف إذ يبدو أنه كان متعباً فغفا بعض الوقت رفع السماعة فإذا زكى على الخط يقول له :

- الحمد لله على السلامة يا شيخ المشايخ .

ورد طارق :

- شكراً لقد وصلت اليوم إلى لندن . كم الساعة الآن ؟

فقال زكى :

- الساعة التاسعة . بإمكانك أن تسهر هذه الليلة . وغداً تأتى إلى مكتبى

في كنزنجتون الساعة الخامسة بعد الظهر .

قال طارق :

- " أوكى " .

ثم سمع زكى يضع السماعة على الطرف الآخر لتنتهي المخابرة عند هذا الحد .

الفصل الرابع

تجنيد الضابط خليل

في اليوم التالي كان طارق يقف أمام السفارة الإسرائيلية في حي كنزنجتون , ويغط على الزر وبعد التحقق من صورته على الشاشة الداخلية , فتح الباب الحديدي الضخم ليدلف منه إلى غرفة التفتيش حيث خضع هنالك لإجراء روتيني قبل إدخاله على زكى الذي كان في انتظاره حسب الموعد المحدد .

نهض زكى من خلف مكتبه مرحباً بطارق وهو يبتسم قائلاً :

- أهلا . أهلاً بشيخ الشباب , كيف الحال , وكيف الأهل وكيف بيروت ؟

- رد طارق باقتضاب قائلاً :

- الحمد لله , كلهم بخير .

ترى هل فكر طارق بقوله الحمد لله , كلهم بخير, أم إنها عبارة تقليدية , كيف يكونون بخير وكيف لمثله أن يحمد الله وهو يخون الله والوطن والأهل والأصحاب , يتركهم طعماً لمدافع إسرائيل وقنابلها العنقودية ؟

ظل زكى يسأل طارق عن أخوته وأهله , وطارق يرد عليه بتلك الإجابات التقليدية . ثم بعد برهة تناول من جيبه ورقة المعلومات الجديدة التي أحضرها معه من بيروت , تناول زكى الورقة منه وألقاها على المكتب بلا اهتمام ثم نهض ليصافح طارق مودعاً :

- شكراً , غداً نلتقي الساعة الحادية عشر صباحاً في الهايد بارك . , هل

تعرف الهايد بارك جيداً ؟

- إلى حد ما .

هناك كشك على مقربة من ركن الخطباء هل تعرفه ؟

- أعرفه .

حسناً إذن موعدنا هناك .

في صباح يوم الموعد , كان طارق في تمام الحادية عشرة يقف أمام الكشك ويشترى لنفسه " ساندويتش " جبنة , فهو لم يتناول إفطاره بعد ولم يكن قد أنهى " الساندويتش " حين أطل زكى , الذي مشى أمامه وتبعه طارق على مقربة , وظل زكى يمشى ويدلف من شارع إلى شارع حتى دخلا في شارع فرعى باتجاه واحد . وحين وصل زكى إلى المقعد مباشرة دون أن يمر على موظف الاستقبال . في الطابق الثالث توقف المصعد وخرج زكى يحمل في يده مفتاح الغرفة رقم 35 . فتح باب الغرفة ودخلا . ثم انحنى زكى وتناول حقيبة صغيرة بنية اللون من تحت السرير ناولها إلى طارق قائلا :

- خذ هذه الحقيبة وفتشها جيداً .

وتناول طارق الحقيبة وأخذ يبحث عما فيها فلم يجد شيئاً فأعادها بقوله :

- لا يوجد فيها أي شئ .

فقال زكى .

- تفحصها جيداً .

وأعاد الفتى تفحص الحقيبة فلم يجد فيها أي شئ فقال :

- ماذا تقصد ؟ قلت لك أن الحقيبة فارغة .

- ألم تلاحظ عليها أي شئ .

فأومأ له بالنفي وهو يحاول أن يجد شيئا ما في الحقيبة عندئذ ابتسم زكى وهو يقول :

- هذا هو التفتيش الطبيعي , ومن الصعب اكتشاف هذا المخبئ السري فيها في الموانئ والمطارات . هذه هي الحقيبة السرية يا شيخ المشايخ .

وحين فتح له المخبأ السري وعلمه طريقة فتحه وإغلاقه , ناوله ورقة أسئلة جديدة ومبلغ 3000 دولار نقداً . ثم قال له :

- هذا المبلغ حاول أن تقرض خليل منه شيئاً ثم طالبه بالمبلغ ولا تلح عليه , فإذا ما عجز عن السداد أعطه ورقة الأسئلة ليجيب عليها في مقابل الفلوس . فإذا سألك عن الجهة التي تريد هذه الإجابات قل أنها مخابرات حلف شمال الأطلسي .

- حلف شمال الأطلسي ( ردد طارق باستغراب ودهشة ) .

فقال زكى :

- نعم حلف شمال الأطلسي ( وناوله تذكرة سفر والحقيبة السرية وهو

يقول ).

- لا تحاول أن تهرب بالفلوس أو تتهرب . لأننا نستطيع الوصول اليك أينما كنت , ثم لا تنس أن الصور مسوداتها موجودة لدينا .

فرد طارق بصوت منخفض :

- لا تخف .

هكذا كان ضابط الموساد يتعامل مع طارق ويستعمل معه التهديد تارة واللطف تارة .حتى أصبح الفتى مسيطراً عليه تماما , إذ كان خالي الوعي والإدراك مما تفعله يداه من تخريب في أمن الثورة الفلسطينية وأمن بلده . كل ما كان يعنيه في البداية تلك الصور التي التقطوها له في أوضاع مخجلة يندى لها الجبين , وكان كل همه أن لا يندى جبين أبوه ولا جبين أي من أهله وعائلته أمام الناس إذا ما عرفوا حقيقته وبالإضافة إلى الصور كان هناك العامل المادي الذي لعب دوره في عمالة الفتى وتجنيده للعمل مع العدو فالدولارات التي تأتى من إسرائيل بلا تعب . وهذه السفرات إلى أوروبا التي يعلم بها مجايلوه من الشباب , عملت عمل السحر في عقله .

خطة تجنيد خليل

قضى طارق ثلاثة أيام أخرى في لندن يتسكع في الشوارع والحانات حتى لا يثير الشبهات بعودته السريعة إلى لبنان . وفى اليوم التالي لوصوله إلى بيروت توجه في الصباح إلى شارع الحمراء حيث عرج على مكتب أمن 13 التابع ل " الصاعقة " . استقبله خليل بترحاب كبير , وبعد فنجانين من القهوة بدأ خليل يشكو من صعوبة الأحوال المادية , ومصاريف العائلة والأولاد .

فقد خيل لضابط الصاعقة أن طارق غنى إذ يتاجر بالملابس ويسافر إلى أوروبا . وقد أدرك طارق أن صديقه خليل مخدوع به فدعاه إلى الغداء في مطعم" اللامب هاوس " ليعمق من هذا الانطباع في نفس الصديق الضابط من طارق وهما على الغداء أن يقرضه ألف ليرة لحاجته الماسة , فقال طارق :

- ولو يا خليل ! بسيطة غداً يكون المبلغ معك .

ويبدو أن خليل استمرأ عملية الاستدانة من طارق ظاناً أنه , جبل مالي , لا تهزه الريح , فصار شفى كل أسبوع يطلب منه معتذرا عن عدم التسديد – مبالغ إضافية تتراوح من 100 إلى 500 ليرة حتى صار مجموع ما اقترضه قبل نهاية الشهر ينوف على 3000ليرة . وذات يوم كانا يتغديان في " مطعم العجمي "حين قال خليل لطارق:

- طارق أرجوك أن تعذرني على عدم تسديد المبلغ كله لك , فأنا لا أستطيع ذلك خصوصاً وأنك تدرك حالتي المادية جيداً .

فقال خليل :

ولا يهمك , أنا لا أريد منك أي شئ . وبإمكانك أن تنسى تماماً أن إلى عليك دين . بل أنا مستعد لاعطائك المزيد .

دهش خليل لرد صديقه , ولم يعرف كيف يشكره , كان طارق يبتسم وهو يرى خليل يبحث عن كلمات الشكر المناسبة .

لما سكت خليل عاجله طارق بقوله :

- أريد منك خدمة صغيرة ؟

فقال خليل :

- أنت تأمر .

مد طارق بيده إلى جيبه وأخرج منها الورقة التي أعطاه ضابط الموساد زكى وناولها إلى خليل قائلاً :

- اقرأ هذه الأسئلة جيداً , وانظر إذا كنت تستطيع الإجابة عليها .

قرأها خليل بسرعة ونظر في وجه طارق قائلاً :

- بس هيك ؟ !

فقال طارق :

- نعم . بس هيك . وإذا أجبت عليها بدقة فستحصل على المزيد من الفلوس.

- أعطني مهلة يومين فقط وستكون الإجابات جاهزة تماماً .

فكر طارق في مهلة اليومين هذه وخشى أن يقوم خليل باطلاع المخابرات الفلسطينية أو مخابرات " الصاعقة " أو مخابرات بلده فأراد أن يجس نبضع فقال بلا اكتراث :

بإمكانك اطلاع الجماعة على الأسئلة .

فقال خليل بحزم :

- مستحيل . إذا عرفوا فسيكون أحد الأمرين : إما مصيبة أو أن يأكلوها هم ونخرج نحن من المولد بلا حمص .

ضحك طارق إذ أدرك أن خليل مستعد لكل شئ في سبيل الفلوس . وحين سأله خليل متفسراً .

- لمن هذه الأسئلة ؟

أجاب طارق ببساطة : حلف شمال الأطلسي .

كانت الأسئلة عادية وعامة ومعروفة للجميع في لبنان , مثل : من هو أمين سر " الصاعقة " ؟ وكم عدد الأعضاء فيها ؟ ومن هو مسئول الإعلام , وعدد القوات والميليشيا ونوعية تسليح كتائبها ومسئول الأمن ؟ فالغرض من الأسئلة اختباري من حيث المبدأ . و" الموساد " لا تحتاج إلى هذه المعلومات , نهى تعرفها جيدا وملفاتها ملأى بالأسماء والمعلومات عن محل المنظمات الفدائية .

بعد يومين كان خليل جاهزا للإجابات المطلوبة التي كتبها بخط يده في سبع صفحات فلوسكاب , فقد كان يطمع في إرضاء طارق ومن وراءه على أمل زيادة الدفع , فتوسع في الإجابة وأطنب , وكان ما ذكر إجابته قوله :

الكتائب : توجد كتيبة في الشمال , وكتيبة ثانية شفى البقاع وثالثة في صيدا ورابعة في بيروت .

التسليح : هاونات 60 ملم , و80ملم ودوشكا ورشاشات 500 .

مسؤول الأمن : أبو على , نائبه أبو سليم , مكتب الأمن رقم 13 مسئول عن الأمن في بيروت الغربية ورئيسه النقيب خليل .

ثم عدد مسؤولى الأمن الآخرين وذكر أحمد الحلاق وأبو سليم وأبو على وباقي القائمة من فوق إلى تحت .

تصفح طارق الإجابات قليلاً ثم ناول خليل مبلغ ألف ليرة , لكنه طلب منه أن يعطيه ايصالاً بالمبلغ , ولم يتردد النقيب خليل لحظة واحدة إذ تناول ورقة من على المكتب وكتب فيها " أنا الضابط خليل , تسلمت مبلغ 4000 ليرة لبنانية فقط لا غير من مخابرات حلف شمال الأطلسي " ثم دون التاريخ واسمه مرة ثانية ووقع الورقة دون أن يرف له جفن أو يفكر في العواقب .

ولدى وضع ورقة الإجابات في جيبه , انتهت مهمة طارق في بيروت , فأخبر صديقه خليل بأنه مسافر وسوف يعود بعد بضعة أيام .وفى اليوم نفسه الذي وصل طارق فيه إلى لندن اتصل بالسفارة الإسرائيلية حسب الاتفاق وترك خبراً لضباط " الموساد " زكى , الذي اتصل به في المساء نفسه حيث اتفقا على موعد في الصباح في السفارة .

كالعادة رحب زكى بطارق وسأله عن أهله وعائلته وبيروت وزاد بقوله :

- وكيف وجدت الضابط خليل ؟

رد طارق : " بخير ويسلم عليك ". ثم ناوله ورقة الإجابات والإيصال الذي سبق لخليل أن كتبهما بخط يده , وضع زكى الورقة أمامه على الطاولة وهو يسأل طارق :

- قل لي , كيف وجدت مطار بيروت ؟ هل فتشوك ؟ وهل تعرف أحد من العاملين في المطار ؟

فأجابه بأن كل شيء مر بسلام إذا لم يفتشه أحد , ومعرفته بالعاملين بالمطار معرفة سطحية ومعرفة عمل من بعيد منذ كان يعمل في شركة السفريات . بعد ذلك طلب زكى أن يحدثه بالتفصيل عن لقائه بالنقيب خليل , فشرح له طارق كل شيء لينهى زكى اللقاء الطويل بقوله :

- حسناً جداً , الآن تذهب إلى شقتك وسأتصل بك غداًُ أو بعد غد .

خلال هذه الفترة كانت أحلام قد غادرت لندن برفقة زوجها إلى نيجيريا ,فلم يجد طارق ما يفعله غير التسكع في الشوارع والحانات الكثيرة , إلى أن اتصل به زكي ليعطيه ورقة أسئلة جديدة لخليل بعد أن أوصاه:

- قل لخليل أن لا يبالغ وان يلتزم الدقة في الإجابات وألا سنقطع تعاملنا معه : نحن نريد الحقيقة فقط لا غير ، ولا داعي لاستغفالنا بقوله أن عدد أفراد ميشيليا " الصاعقة " 50 ألف رجل وعدد القوات 15 ألفاً . نحن نعرف له بحجم الميليشيا . نحن ندفع فقط مقابل الحقيقة.

- لم يدرك طارق المغزى من دفع المخابرات الإسرائيلية لهذه المصاريف والمبالغ مقابل معلومات يعرفونها جيداً . لكنه لم يستمر في التفكير طويلاً فقد حسب زكي له حساب مهمته الجديدة ومصاريفها وحساب خليل ودفع مبلغاً آخر من المال ، وقال له :" هذا لخليل وهذا لك . ولا داعي لأن تحضر كل في مرة إلى لندن . بإمكانك أن تذهب إلى أي بلد أوروبي وتتصل بسفارتنا هناك كما تفعل هنا تماماً وسوف أتصل بك كالعادة " .

فالدور الذي تلعبه السفارات الإسرائيلية معروف . ومثال طارق الحمدان خير دليل على دقة التنظيم وبمجرد أن يتصل شخص ما بأي سفارة إسرائيلية قائلاً : " أنا اسمي جونسون وأريد أن أتحدث مع السيد زكى ... أرجو أن تعطوه رقم هاتفي هذا ليتصل بي " . هذا الخبر الصغير يوصل فوراً إلي إسرائيل , حيث يحول إلى الدائرة المختصة بشئون المخابرات الخارجية فتحلل الرسالة ويصار إلى إبلاغ الضابط المختص فوراً فيعرف واجبه تماماً .

مكث طارق في لندن عدة أيام أخرى دربه خلالها على اتخاذ الاحتياطات الأمنية شفى اتصالاته وتحركاته , وكيفية المحافظة على أمنه الشخصي , فإذا كنت على موعد مثلا , عليك أن تذهب إلي الموعد قبل ساعة على الأقل ... تراقب المكان والناس وتتمشى في كل الطرق المؤدية إليه , فإذا ما تأكدت من أن أحد لا يراقبك اذهب في موعدك بسلام . أما إذا لاحظت وجود شئ غريب أو أحد يراقبك فلا تذهب إلى الموعد ذلك اليوم . وبالنسبة إلى مواعيدنا نحن , إي موعد لا تستطيع أن تكون فيه في الوقت المتفق عليه يعنى أنه تأجل إلى اليوم التالي في الساعة نفسها . هذا إذا لم نتصل بك ونحدد مكاناً وزماناً آخرين " .

فأفضل ألف مرة إلغاء عدة مواعيد من حصول كارثة . كذلك الحال حين تخرج من لقاء معنا . فلا تذهب إلى البيت قبل تأكدك من أن أحد يتبعك أو يراقبك " .

رأى طارق في هذه الأمور وغيرها تعقيدات لا مبرر لها , لكنه بدأ يلتزم بها بحذافيرها حتى تعودها وصار ينفذها بشكل طبيعي حتى أصبحت جزءاً من سلوكه .

الوقوع في المصيدة

بعد وصوله إلى بيروت بيوم واحد ذهب إلى مكتب صديقه خليل الذي بادره بذراعين مفتوحين محتضناً ومرحباً , ليسأله بعد دقائق :

- ها ... هل رأيت الجماعة ؟

- نعم . وهم يسلمون عليك , وقد أرسلوا لك 700 دولار معي .

فقال خليل :

- هل هناك أسئلة جديدة ؟

ورد طارق :

- نعم . لكنهم يعرفون كل شئ فلا تبالغ . لقد فضحتنا معهم .

فقال خليل :

- المعلومات التي كتبتها لهم نقلتها من الملفات الرسمية ل" الصاعقة " على أية حال ولا يهمك , سأعطيك هذه المرة المعلومات بكل البراهين والدقة الممكنة.. هات الفلوس !

ورد طارق :

- غداً سأحضرها لك بالليرة اللبنانية .

خشي الفتى من تهور النقيب خليل . فهو مظهري ولا يهمه شئ وقد ينكشف الأمر إذا ما رأى أحدهم معه عملة أجنبية , لذلك قام في اليوم التالي بتحويل الدولارات من أحد الصرافين الكثر شفى شارع الحمراء , والذي أعطاه 2200 ليرة لبنانية في مقابلها , سلمها مع ورقة الأسئلة إلى خليل , والورقة هذه المرة زرقاء أيضاً كالمرة السابقة مكتوب في رأسها

( الأخ خليل )وموقعه باسم جورج . لكن الأسئلة كانت تفصيلية ودقيقة تتطلب إجابات مفصلة ودقيقة وبالتالي مثل : من هو زهير محسن . ولادته وزوجته وأولاده وأهله وعائلته ودراسته وهواياته ؟ وكيف يداوم وكيف يدبر الأمور ؟ ومن هم المقربون منه من داخل " الصاعقة " ومن خارجها ؟ ... الخ , ثم من هو أبو على ومن وأبو سليم ومن هو أحمد الحلاق ؟ وما هي مهمات كل منهم ؟ بالإضافة إلى مكتب الأمن 13 . وما هي أنواع السيارات التي يستعملها المسئولين وعناوين بيوتهم وصديقاتهم و

أصدقائهم ؟ كذلك السيارات الخاصة بالقوات : نوعيتها ونوع الأسلحة والأعداد و الكميات ؟

لم يكن من الصعب على النقيب خليل أن يجيب على هذه الأسئلة . فهو يعمل ضابطاً في أكثر أجهزة منظمة " الصاعقة " حساسية , وهو جهاز الأمن . لذلك فهو يعرف الكثير من التفاصيل الشخصية والاجتماعية والحياتية للمسئولين . كما يعرف التفاصيل العسكرية سواء من جهة العمليات التي تقوم بها " الصاعقة " أو لجهة الحراسة والأمن .لذلك كانت إجابات دقيقة ومفصلة وفق المطلوب تماماً . أخذها منه طارق وأخذ منه طارق وأخذ منه إيصالا بالاستلام شبيهاً بالإيصال السابق . ومع الأيام ولكثرة تردده على مكتب النقيب خليل , توطدت علاقة طارق بالشباب العاملين خصوصاً في " نور الثورة " حتى أصبح محسوباً على هذا

التنظيم , يكلفه المسؤولون فيه بعض الأعمال الروتينية لكنها في الوقت نفسه مهمة كاستخراج تأشيرات السفر للمقاتلين الذاهبين في مهمات خارجية ومرافقة هؤلاء الشباب إلى المطار واستقبالهم لدى عودتهم من تلك المهمات . فكانوا يثقون به ويفيضون في الحديث معه , فيستمع إلى كل ما يقولون ويرصد بين ذلك كله ما قد يكون مهما لينقله بعد ذلك بكل " أمانة " إلى ضابط " الموساد " زكى في لقاءاته معه والتي كانت تتوالى بسرعة لحرص " الموساد " على عنصر السرعة في عملياتها , خصوصاً وأنها جهاز تنفيذي . أي أنها حين تتأكد من وجود قاعدة عسكرية فلسطينية فى مكان ما , فإنها تعطى الإشارة بعد تحديد المكان على الخرائط الجوية ليقوم

الطيران بقصف تلك القاعدة دون أي تأخير . ويكون المبرر عادة أما رد على إحدى العمليات الفدائية أو افتعال شئ ما . أو إذا لم يكن هناك من مبرر فغالباً ما يتم القصف تحت شعار الضربة الوقائية .

وهنا مكمن الخطورة في عمل طارق الحمدان والنقيب خليل , فهل كانا عاجزين على إدراك خطورة عملهما ؟ بالتأكيد لا , فقد كانا يعرفان ذلك تماماً . ولكن الدولارات الواردة من إسرائيل وانعدام الإحساس الوطني والقومي والأنانية التي أدت إلى أن يلوث الصديقان دماء الأهل وتراب الوطن .

كان طارق الحمدان قد أنهى بذلك مهمته في بيروت , فحمل حصيلة الخيانة وسافر هذه المرة إلى باريس للقاء ضابط " الموساد " هناك الذي كان يعد له مفاجأة لم يكن يتوقعها مطلقاً .

الفصل الخامس

ليلة " الموساد " في فيينا

حمل طارق المعلومات التي توفرت لديه , وورقة الإجابات التي زوده بها النقيب خليل وسافر هذه المرة إلى باريس حيث اتصل بالسفارة الإسرائيلية هناك كما تعود أن يفعل في لندن . وترك لزكى خبراً حول عنوانه وبعد ساعات كان زكى يتصل به مرحباً كعادته وسائلاً عن أحوال بيروت والأهل و" الاكوامارينا " فرد طارق باقتضاب :

- الكل بخير متى نلتقي ؟

فقال زكى :

- غداً . في السفارة , الساعة الخامسة بعد الظهر .

- إلى اللقاء إذن في الغد .

وفى الموعد المحدد , كان طارق يقرع الجرس ويدخل البوابة الكبيرة الى غرفة التفتيش الآلي . ثم إلى غرفة انتظار كبيرة حيث ظل فيها أكثر من نصف ساعة قبل أن يدخل عليه زكى فاتحاً ذراعيه وهو يقول بابتسامة كبيرة على وجهه .

- أهلا أهلا بشيخ الشباب أنا آسف لتأخرى عليك , وما ذلك الا لأننى هنا ضيف مثلك . من اندن أو بروكسل أو جنيف أو ربما يكون قد جاء من

تل أبيب.

تبع طارق زكى عبر ممر داخلي في السفارة , ثم صعدا درجاً صغيراً قبل أن يدخل ضابط " الموساد " إلى أحد المكاتب حيث تحدثا قليلاً في المجاملات المعهودة . ثم مد طارق يده إلى جيبه وأخرج الأوراق التي كان يحملها معه , وقدمها إلى ضابط " الموساد " الذي راح يقرأ بعدم اهتمام وجفاء . معطياً الانطباع للرائي بأن ما فيها مخيب للآمال , الأمر الذي جعل طارق ينفعل بشدة لكنه كتم غضبه وانتظر تعليق زكى الذي قال :

- ما هذا السخف ؟ كل هذه المعلومات والإجابات تافهة لا تساوى شيئاً.

فما كان من طارق إلا أن هجم على الأوراق يريد تمزيقها فصرخ به

زكى .

- ماذا تفعل ؟ اجلس ولا تتحرك من مكانك .

وسحب الأوراق من يد طارق بشدة فتراجع الفتى وجلس فى مقعده بانفعال شديد .

فقال زكى :

- اياك أن تفعل ذلك مرة أخرى . نحن الذين نقرر هنا كل شىء , ونحن

الذين نحتفظ ونمزق , أنت عليك أن تقوم بواجبك وبكل ما يطلب منك بدقة . هل تفهم ؟

أومأ طارق برأسه بالإيجاب ولم يتكلم فقال زكى وهو يبتسم .

- على أية حال . لا تغضب , لأننا سنسهر معاً هذه الليلة .

في المساء التقيا وتناولا العشاء في أحد مطاعم باريس وقبل أن يفترقا اتفقا على موعد للقاء في اليوم التالي .

معلومات سرية

من المعلومات التي وردت في إجابات النقيب خليل قوله :

كتيبة الأخضر العربي توجد في صبرا , وهناك كتيبة في الشمال والبقاع وصيدا , بالإضافة ثلاثة آلاف جندي نظامي من دولة عربية يلبسون لباس " الصاعقة " في الجنوب وعن سيارات القوات كتب أنه تتألف في غالبيتها من " التويوتا " و " الشيفروليه " , أما الأسلحة فعبارة عن مدافع 106ملم و75ملم . ودوشكات وهاونات 60 ملم , ورشاشات 500كما جاء قوله أن كل شئ في يد زهير محسن الذي يملك منزلا في عاصمة عربية وهو عبارة عن فيلا كبيرة وأنيقة مؤثثة أثاثاً فخماً , كما لديه منزل آخر في بيروت شفى بناية " الهوندا " وعن أبو سليم قال أنه يبدل سيارته باستمرار وهى دائما سيارات فخمة من نوع " بيويك " و " شيفروليه" و " مر سيدس " وانه متزوج ويقيم خلف مكتب " الصاعقة " في محلة جلول في الطابق الثاني وذكر أشياء وتفاصيل كثيرة عن أبو سليم تدل على أنه يكره الرجل إلى حد كبير أما أحمد الحلاق فهو المسؤول عن تدريب الشباب للعمليات الخارجية , كما هو مسؤول عن مكتب ال19 وله معسكر في بلدة برجا , وأنه رجل جدي , متزن وهادئ يقرأ كثيراً ولا يحب السينما ولا وقت لديه لممارسة أية هواية من هواياته غير القراءة . متعصب للثورة الفلسطينية بشكل عام وللصاعقة بشكل خاص . ثم تحدث عن مسؤول الإعلام أسامة بيرقدار ذاكراً , أخلاقه وصفاته وعاداته وهواياته ودراسته وزوجته وأولاده , وخرج بخلاصة عن الرجل مفادها أنه يتسم بأخلاق عالية وأنه محبوب جداً في " الصاعقة " . وفيما ذكره أيضاً عن زهير محسن , أنه يستعمل سيارات " مر سيدس 280 و 350 " . أما ماجد محسن فكتب عنه بأنه لا قيمة له سوى كونه أخ زهير محسن , لكنه أفاض في الحديث عن أبو على الذي يسكن خلف الأمن المركزي والمتخرج من كلية الحقوق في جامعة دمشق . متزوج وله ثلاثة أولاد , بلا أية هوايات . أي أنه يذهب من البيت إلى المكتب و من المكتب إلى البيت ,جدي يقرا كثيرا متعصب للثورة الفلسطينية . قام بإحدى العمليات الناجحة في فيينا عام 1972م وعلى صلة وثيقة بأحد المسؤولين الكبار في إحدى الدول العربية .

والغريب في أمر النقيب خليل أنه كان يتحدث كثيراً عن الأشخاص الذي يحبهم ويوجز كثيراً في حالة الأشخاص الذين يكرههم . تبقى المفارقة أنه في حديثه عمن يحب من المسؤولين حديث قاتل , يصدق القول الشائع " من الحب ما قتل " . لكن في الوقت نفسه فاض في الحديث عن جهاز الأمن لصلته الوثيقة جداً بهذا الجهاز , بينما أوجز كثيراً في حديثه عن القوات والميليشيات , وعن السلاح آذى تعرضت له الطائرات الإسرائيلية في إحدى الغارات وقال إنها صواريخ " ستريلا " الموجودة لدى المقاومة .

توجه طارق في الموعد التالي إلي السفارة الإسرائيلية حيث اقتيد إلى مكتب زكى , لكنه لم يمكث هناك طويلاً , فقد أخبره ضابط " الموساد " أنه سيعلمه التصوير وعليه أن يخرج الآن وينتظره في محل " الفليبر؟ " القريب من السفارة .

بعد قليل وافاه زكى الذي اصطحبه إلى أحد مكاتب التاكسيات حيث استقلا سيارة انطلقت بهما إلى العنوان الذي حدده ضابط " الموساد " فإذا هو عبارة عن بناية قديمة تحمل في واجهتها لوحة نحاسية مكتوب في وسطها كلمة " شارون " دخلا إلى شقة في الطابق الأرضي على اليسار , وكان مفتاح الشقة مع زكى . جلسا هناك حوالي نصف ساعة إلى أن جاء رجل متوسط القامة , أصلع الرأس عمره حوالي 50 سنة . نحيف الجسم عندئذ قال زكى " شيخ المشايخ " :

- هذا الرجل سيعلمك التصوير . هل تعرف التصوير ؟

قال طارق : " نعم " . فقال زكى : " لكنك الآن ستتعلم تصوير الوثائق " .

أخذ الرجل يعلم " شيخ المشايخ " كيف يصور بكاميرا من نوع " كوداك " وقال له : " إذا كان معك ورقة وتريد تصويرها على عجل .. عليك أن تصورها كما يلي " وتناول الرجل دليل الهاتف وسلط على إحدى صفحاته ضوءاً بزاوية معينة بينما الكاميرا تبعد مسافة معينة مثلها عن الورقة تاركاً حول الورقة من كل الجهات أيضاً مسافة معينة أثناء التصوير ثم قام الرجل بإجراء عملية التصوير أمامه , وبعد ذلك دخل الحمام عن فترة لا تزيد خمس دقائق , وعاد يحمل صورة عن الورقة , ثم تناول عدسة مكبرة مثل التي يستعملها خبراء المجوهرات فظهر كل شئ فيها بوضوح .

تصوير وتدريب

بدأ " شيخ المشايخ " يجرب التصوير واستمر التدريب حوالي ساعتين حتى أصبح يتقنه تماماً . عندئذ انصرف الرجل وبعد ربع ساعة خرج زكى و" شيخ المشايخ " في أثره .

في اليوم التالي التقى طارق بزكى في السفارة حيث أعطاه ضابط الموساد أسئلة جديدة للنقيب خليل ومبلغ 1500 دولار وتذكرة سفر بالطائرة , ثم قال له : " الآن علينا أن نتفاهم على شيفرة معينة ترسلها بالبريد مثل البرقية كقوله أرجو إرسال 45 بدلة زرقاء بتاريخ20/2/79 على أن تصل منها بدلتان كعينة . وتفسير هذه الشيفرة كما يلي : 45 تعنى باريس وزرقاء تعنى سفارة , أما التاريخ فهو تاريخ تنفيذ العملية , والعينة عدد الأشخاص المنفذين ".

اخذ زكى يفسر له نص البرقية . فالرقم دائماً يحمل اسم مدينة معينة , وكل مدينة أوروبية لها رمز ورقم معين , وبشكل عام يمكن تفسير الألوان في البرقية كما يلي : زرقاء سفارة , بنى : كنيس , أسود: مؤسسة يهودية , الرقم في البرقية : هو مفتاح البلد الأوروبي , والتاريخ كما ذكرنا هو تاريخ تنفيذ العملية والعينة عدد المنفذين للعملية بينما اللون هو الهدف.

بطبيعة الحال . كان الغرض من هذه البرقيات أنه في حال معرفة طارق أو صديقه لأية معلومات حول عملية ستقوم بها منظمة " الصاعقة " يتوجب على طارق أن يقوم بإبلاغ " الموساد " عنها . ثم أعطاه ثلاثة عناوين ليرسل إليها برقياته : واحد في لندن والثاني في بلجيكا والثالث في النمسا . وبإمكانه أن يرسل إلى أي عنوان يريد في أوروبا إلى السفارة الإسرائيلية .

كان غطاء طارق في بيروت أنه تاجر ملابس لتبرير سفراته المتكررة إلى أوروبا أمام الآخرين من معارفه هناك . فهو يستورد من الخارج ملابس رجالية . وكان زكى في كل سفرة يعطيه عدداً من البدلات ليأخذها معه كغطاء لرحلته . لذا كان نص البرقية مأخوذا من طبيعة عمله الوهمي .

ثم قال له زكى : " لا أريد أن أتمشى معك في باريس لأن فيها كثير من اللبنانيين الذين يعرفونني جيدا أما إذا رآني أحد معك فقدمن باسم زهير ماليتزى , من مالطة , وهذه عائلة مالطية موجودة فعلاً . لأنني كثيراً ما كنت أذهب إلى " الأكوا مارينا " أسبح هناك وأقضى أوقاتاً ممتعة . وليس هناك شئ ألذ من سمك السلطان إبراهيم " . فجونيه و " الأكوا مارينا " جميلتان من حيث الجمال والمتعة ومن المؤسف أنه لا تقدر أن تذهب إلى هناك كونك مسلم ولكنني كنت أتردد على بيروت الشرقية كثيراً " .

أمل الفتى مهمته في باريس وعاد إلى بيروت حيث تقابل هناك مع النقيب خليل فأعطاه المبلغ بالليرة اللبنانية مرفقاً بورقة الأسئلة التي كانت هذه المرة أكثر دقة وتحديداً , إذ كانت احتياجات حقيقية ل " موساد " بينما كانت الفترة السابقة عبارة عن نسبة بسيطة من الاحتياجات فيما كانت النسبة الكبرى منها اختبارية لأمرين الأول : لاختبار مصداقية المعلومات التي يزودان بها " الموساد " فقد طرح زكى عددا كبيرا من الأسئلة التي تعرق " الموساد " أجوبتها بدقة متناهية . وكان طبعاً يدس بين هذه الأسئلة أسئلة أخرى هم بحاجة ماسة إلى إجاباتها فكانت الأسئلة الأخرى تغطيها , وكان لا يمكن معرفة الأسئلة الاختبارية من الاحتياجات الحقيقية . أما الأمر الثاني فكان اختبار مدى قدرة طارق وخليل على جمع المعلومات , لأن الهدف النهائي من طل هذا العمل بالنسبة إلى " الموساد " هو المعلومات . ولكن النتائج جاءت إيجابية . فقد كانت الأسئلة هذه المرة تتعلق بالعمليات الخارجية ل" الصاعقة " التي تركزت حول عمليتين قامت بهما " نسور الثورة " في قبرص وباريس فكانت الأسئلة من نوع : من هو مسؤول العمليات الخارجية ؟ وما هي الأهداف المتوقعة في الخارج ؟ أين يتم التدريب على العمليات ؟ وهل زهير محسن على علم مسبق بهذه العمليات ؟

أسئلة دقيقة وخطيرة للغاية ... وكل سؤال من هذه الأسئلة يحتاج إلى شرح مطول بال إضافة إلى صعوبة الحصول على إجابات محددة لمثل هذه الأسئلة . إلا أن عمل النقيب خليل في أمن " الصاعقة " جعله قادراً على الرد على كل هذه الأسئلة , بينما بات واضحاً من خلال هذه الأسئلة أن عين " الموساد " بدأت تنفتح على العمليات الخارجية التي تقوم بها " نسور الثورة " . فقد كانت الجهود العربية شفى تلك الفترة منصبة على إفشال اتفاقية كامب دايفيد . لكن بعض العمليات الخارجية كانت في ذلك الوقت تخدم إسرائيل إلى حد كبير كما سنلاحظ من خلال القصة , إذ ترتبت عليها نتائج عكسية تماماً .

قام النقيب خليل بالإجابة على الأسئلة كما يلي :

العمليات المتوقعة , أي كنيس في أوروبا والسفارات الإسرائيلية , ومطعم " هوفمان " –أحمد الحلاق هو الذي يقوم بتدريب الشباب على العمليات الخارجية والتفجير . ونقل المتفجرات يتم في قعر الحقيبة . ونتيجة لهذه المعلومات كان أحمد الحلاق سيذهب ضحية , ولكن الأمور تطورت في ما بعد ونجا بعد أن لاحقته " الموساد " لفترة طويلة .

ثم قال أيضاً أن العمليات تتم بناء على طلب من جهاز مخابرات عربية ذكره بالاسم وأحياناً بناء على بادرة من أبو على . أما زهير محسن فهو على علم مسبق بجميع العمليات وبكل تفاصيلها .

في تلك الفترة كانت منظمة " الصاعقة " تشهد نشاطاُ حثيثاً في مجال العمليات الخارجية ضد المصالح الإسرائيلية والمصرية . فقد قامت " نسور الثورة " بعمليات ضد حي للطلبة اليهود في فرنسا , كما قامت عمليتين ضد السفارة الإسرائيلية في قبرص وضد مكتب الخطوط الجوية المصرية . وفى فترة لاحقة قامت المنظمة ذاتها بتبني هذه العمليات في بيان صدر عنها في بيروت ( نقلته وكالة " رويتر " للأنباء في 20 إبريل (نيسان )1979.

بعد عودته إلى بيروت قال طارق لخليل : " إذا سمعت أو حصلت على أية معلومات عن عملية خارجية يجب أن تبلغني بأقصى سرعة لأنه أصبح لدينا الآن وسيلة اتصال .

ظرف حرج

في تلك الفترة كانت الجهود العربية والفلسطينية كلها مركزة على إفشال اتفاقيات كامب دايفيد . فقد اتخذ قرار في منظمة التحرير الفلسطينية بتصعيد الكفاح المسلح في الأراضي المحتلة , إلا أن " نسور الثورة " تجاوزت هذا القرار وأعادت العمل الفدائي إلى الأسلوب القديم الذي اتبعته التنظيمات الفلسطينية في فترة الانطلاق التي مرت بها لاثبات الوجود . فمنذ نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1977 تاريخ زيارة الرئيس السادات للقدس توالت الظروف الصعبة على المنطقة الغربية , وحدث الاجتياح الإسرائيلي الأول للجنوب اللبناني في شهر مارس ( آذار ) 1978 أثر " عملية دلال المغربي البطولية " على شواطئ فلسطين . وفى يوم 4 سبتمبر ( أيلول ) 1980 اندلعت الحرب العراقية – الإيرانية , فأصبح العراق مشلولاً لا يستطيع القيام بأي دور في الصراع العربي الإسرائيلي , أما الجبهة المصرية فقد أغلقت تماماً حيث اختار السادات أن يرحل بمصر بعيداً عن العرب , وفى سلام منفرد مع إسرائيل . ولكن الضرر الكبير الذي حصل على مستوى الثورة الفلسطينية تمثل فعلا في الحرب العراقية – الإيرانية . التي استفحلت مما جعل إسرائيل تفكر جدياً في اجتياح لبنان . ومثل هذا الأمر ما كان ليحصل لو لم تكون قدرات العراق مشغولة في الحرب مع إيران .

كان النقيب خليل يعمل في جهاز أمن " الصاعقة " وكان طبيعياً أن يتأثر مباشرة بالتطورات والأحداث شفى هذا الجهاز . الذي كانت استعدادات مسؤولية على قدم وساق لتصعيد العمليات . وكانت مهمة خليل تتمثل فى إعداد تأشيرات السفر للشباب وتذاكر السفر وإيصالهم إلى المطار . ولم يكن أحد يشك في النقيب خليل من حيث صدقه واخلاصه " الصاعقة " ولم يلاحظ عليه المسؤولون أي شئ يثير الشك والريبة . وبطبيعة الحال فمسؤولية انحرافه يتحملها هو وليس التنظيم الذي يعمل فيه لأنه ليس من الطبيعي أن يدخل أي تنظيم في حالة مرضية من الشك في عناصره دون مبرر . وهذه مسألة في غاية الأهمية , ففي فترة من الفترات كانت " الموساد " تعمد إلي بث حالة من التشكيك في عناصر منظمة التحرير الفلسطينية .

كان النقيب خليل ينتمي إلى جناح في منظمة " الصاعقة " هو " نسور الثورة " وحاول جلب طارق إلى هذا التنظيم . وبسبب الفوضى التي كانت تعيشها التنظيمات الفلسطينية , أصبح طارق يكلف مع خليل بتسهيل سفر الشباب بحكم علاقته السابقة مع شركات السفر .

وفى أحد الأيام طلب خليل من طارق استطلاع هدف معين في أوروبا فأرسل طارق في اليوم نفسه البرقية التالية إلى زكى :

" هل من الممكن إرسال بدلات ؟ وأين يمكن استلامها ؟ " .

وكانت برقية غريبة مما جعل زكى يتصل هاتفياً من بلد أوروبي بطارق ليستفسره عن هذا الطلب الغريب , ففهم زكى أن الجماعة يبحثون عن هدف .

بعد عدة أيام وصلت إلى طارق رسالة تحتوى على دليل سياحي لفيينا وحول كلمة " كنيس " موضوعة إشارة (× ) . فهم الفتى الرسالة . فأخذ الدليل السياحي إلى خليل وقال له : " لقد أخذت الدليل من السفارة

النمساوية , وأعتقد أن هذا الكنيس اليهودي يشكل هدفاً نظيفاً " .

وبطبيعة الحال , أرادت المخابرات الإسرائيلية أن تنجح العملية لأنها هي التي اقترحت الهدف وكانت تعرف أيضاً أن مثل هذه العملية لن تنجم عنها خسائر بشرية أو مادية كبيرة , ولكن لها فائدة معنوية كبيرة تساعد إسرائيل في التحريض ضد الثورة الفلسطينية لتأليب الأوساط اليهودية في النمسا وأوروبا بهدف إظهار الثورة على أنها منظمة إرهابية تحارب اليهود أينما كانوا , وليس الصهاينة الإسرائيليين فقط .

عاد النقيب خليل إلى الفتى وقال له أن جماعة في " نسور الثورة " قد وافقوا على الهدف فأخذ يجهز سفر أحد الشباب واسمه سالم إلى فيينا , وقال له : " أبلغ الجماعة أن سالم مسافر إلى فيينا لضرب الكنيس " . ولم يكن خليل ليعلم بأن " الموساد " هي التي اقترحت الهدف , ولتأكيد الخبر أرسل طارق البرقية التالية : " أرجو إرسال 33 بدلة زرقاء تاريخ كذا

( ذكر اليوم الذي سافر فيه سالم ) كما أرجو إرسال عينة واحدة , وتفسير هذه البرقية كالتالي : 33 تعنى فيينا , زرقاء : كنيس , التاريخ : تاريخ السفر , العينة واحدة : المنفذ واحد .

وبعد أربعة أيام عاد سالم بعد أن نفذ عملية ناجحة , فقد فجر الكنيس بمادة " تى. أن. تى "وبعد أن تأكد من الانفجار عاد إلى بيروت وكان فى استقباله في المطار – كإعادة – خليل وطارق . فقد قال له خليل : " برافو ... إن شاء الله تنفذ عملية أكبر في المستقبل . اذهب الآن لترتاح " .

وبعد أن أوصلا سالم كان خليل منفعلاً وقال لطارق :

- ما هذا ؟ يبدو أن الجماعة لم يفعلوا شيئاً .

قال طارق : ولماذا أنت غاضب ؟

قال خليل :

- لأنهم لم يقبضوا على سالم , وهذه العملية ثمنها فلوس . لماذا لم يقبضوا

عليه ؟ !

لم يكن النقيب خليل سعيداً على الإطلاق لأن العملية نجحت , ولأنه حسب اعتقاده خسر ثمن العملية . فلو فشلت لقبض الثمن .

بعد هذه العملية بفترة قصيرة سافر طارق إلى فرنسا ونزل في أحد الفنادق واتصل بالسفارة الإسرائيلية في باريس .. وبعد ساعات اتصل به ضابط " الموساد " زكى مرحباً به كالعادة : " أهلاً بشيخ المشايخ , كيف الصحة والأهل ؟ لا تقل شيئاً . غدا نلتقي في السفارة الساعة الرابعة بعد الظهر " .

استقبله زكى في السفارة بحرارة وحفاوة ثم أخذ الفتى يتحدث عن عملية فيينا , وأنه أرسل إليه برقية بتاريخ تنفيذها واسم المنفذ مع صورة عن جواز سفر سالم , فقال زكى : " لقد قمت بعمل عظيم يا شيخ المشايخ " . فقال طارق : " ولكن لماذا لم تقبضوا عليه ؟ " قال زكى وهو يبتسم : " لقد وصلت البرقية متأخرة .. ولكن ستكون لدينا وسيلة اتصال أسرع في المستقبل " .

تناول زكى من مكتبه كاميرا .. فارتعش الفتى الذي أصبحت لديه حساسية من التصوير والصور فقال له : " ماذا تريد أن تفعل ؟ " قال زكى : " لا تخف فالمسألة بسيطة " . كبس على الزر ليأخذ صورة عادية , وقال : " غداً نلتقي في مطار أورلى الساعة الرابعة بعد الظهر , وتكون قد لأحضرت كل ثيابك , دهش الفتى من هذا الطلب الغريب , فقال : " لماذا ؟ " فربت زكى على كتفه وقال : " لأنك غداً ستسافر إلى تل أبيب يا شيخ المشايخ " !

الفصل السادس

" الموساد " تفشل خطة لاغتيال السادات

لم ينم طارق في تلك الليلة . وهو يفكر في كل الاحتمالات . ما الذي يريدونه منه في تل أبيب . وها هو معهم هنا يقدم لهم كل ما يريدون ؟ ترى هل يريدون تصفيته ؟ ألا يستطيعون تصفيته هنا ؟ وإذا لم يكن هذا قصدهم . فماذا سيفعلون في جواز سفره ؟ هل سيختمونه بالخاتم الإسرائيلي ؟ .

وهو خاتم يكفل له الموت المحقق ؟ خفق قلبه وهو ينتظر " الموساد " في تمام الساعة الرابعة بعد الظهر في مطار أورلى , إذا بعد ساعات سيكون شفى

" عرين الأسد " . ولطالما سمع عن فلسطين السليبة ترى كيف هي ؟ وكيف أرضها ودورها ومبانيها وكيف تعيش في ظل اليهود ؟ وقبل أن يسترسل في الأفكار ربت زكى على كتفه وهو يناوله جواز سفر جديد , ما إن فتحه حتى وجد فيه صورته واسمه وكل التفاصيل الخاصة به حقيقة مائة في المائة , ما عدا المهنة , إذ كتب في مقابلها " مستشار في وزارة الزراعة "

في حوالي الساعة السادسة مساء أقلعت طائرة " العال " وعلى متنها هذا الطائر الغريب , الذي بدأ قلبه يهبط وهى تنحدر تدريجياً بعد عدة ساعات في اتجاه مدرج المطار في اللد , وحين توقفت الطائرة أمره زكى بأن لا يتحرك من مكانه حتى يخرج الجميع . وما أن هبطا السلم حتى وجدا سيارة خاصة في انتظارهما , دهش لسيطرة " الموساد " في إسرائيل ولم يفكر لأن إسرائيل تعيش هاجس الأمن والخوف باستمرار , وإنها دولة يملكها جيش وليست دولة تملك جيشاً . فكل شئ في الكيان الصهيوني مسخر لخدمة الجيش والمخابرات وأجهزة الأمن المختلفة .

في السيارة بدأ يفكر في أسباب إحضاره إلى تل أبيب . وهذه الأسباب بالطبع عديدة , أولها توريطه وتوثيق هذا التوريط بجواز سفر وزيارة إلى تل أبيب , وثانيها مسألة واردة . وكل عملائها يخضعون حتى آخر يوم في خدمتهم للمراقبة والاختبار . وهناك دائماً خطتان في بدء التعامل مع المخبرين والعملاء في دفتر

" الموساد " الأول حول طريقة عمله والأهداف المرجوة من وراء تجنيده والثانية كيفية التخلص منه في أي وقت , فكثيراً ما تكون مكافأة نهاية الخدمة في " الموساد " حادثاً قاتلاً أو رصاصة مجهولة . فحين يعرف العميل أشياء كثيرة وتقل قيمة عمله يصبح مكلفاً أكثر من اللازم وخطيراً في الوقت نفسه , وبالنسبة إلي " شيخ المشايخ " كانت المسألة لا تزال في البداية والهدف من تجنيده لم يبدأ العمل الجدي فيه بعد .أمام بناية من ثلاث طوابق في شمال تل أبيب توقفت السيارة وترجل منه طارق وزكى برفقة السائق " ميكى " حيث دلفوا جميعاً إلي إحدى الشقق في الطابق الأول .

اغتيال السادات

استحم طارق وتناول العشاء مع رفيقه , لينصرف السائق فيما بعد بينما بات زكى وطارق في الشقة حتى الصباح .

في الصباح شغل زكى الهاتف وهو يتحدث مع زوجته في لندن يطمئنها ويطمئن عليها وعلى الأولاد ثم اتصل بصديقته في تل أبيب وحادثها مطولاً , ثم تكلم مع أهله في صفد قبل أن يتناولا الإفطار .

في حوالي الساعة العاشرة دق الجرس فقفز زكى يفتح الباب ليدخل منه رجل معه حقيبة وراديو صغيرا وضعهما على الطاولة دون أن يفهمه طارق أي شئ ,, إلى أن قال له زكى : ستتعلم طريقة الإرسال بالاسلكى " .

تناول المدرب ورقة بيضاء وقلما قدمهما إلى طارق طالبا منه أن يكتب في الورقة اسمه وعنوانه وعمره ومقر عمله واقامته وكل تفاصيل حياته . دهش طارق للطلب الغريب وشرع في الكتابة . لكن زكى نهره واخذه إلى الغرفة المجاورة ووبخه على سرعة استجابته لكل ما يطلب منه , ثم أمره بأن لا يفصح لأي إنسان عن أي شئ مهما كان , لأن هذا المدرب قد يقع في يوم من الأيام ولن يتحمل التعذيب , وعندئذ سيقول كل ما عنده " فلا تقل لأي مخلوق قبل أن تأخذ اذناً

منى " , وعاد طارق إلى المدرب وقدم له معلومات وهمية قبل أن يقول له المدرب .

- الآن ستتعلم الشيفرة .

لكن طارق كان يعرف هذه الطريقة من عمله في مكتب السفريات . واستمر التدريب في اليوم الأول لمدة ساعة واحدة . وفى اليوم التالي تعلم كيف يفك الجهاز وكيف يحلل البرقيات وكيف يرسلها , فكل برقية مكونة من عدة مجموعات وكل مجموعة تتألف من خمسة حروف , وهناك وقت محدد للارسال . أحضر المدرب كتاباً وقال لطارق : خذ دائماً أول حرف من أول سطر والحرف الثاني من السطر الثاني ... وهكذا تأخذ حرفاً واحداً فقط من كل سطر وإذا لم تكف الحروب تعود إلى السطر الأول من جديد وتأخذ أول حرف من اليسار وتنزل هكذا إلى السطر الثاني والثالث كما في حالة اليمين . واستمر التدريب اليوم التالي حتى الرابعة بعد الظهر . فلما انتهى قال له زكى : " هل حفظت كل شئ ؟ " فرد طارق بالإيجاب , فقال زكى :

- إذن ستعود هذا اليوم إلى باريس .

فسأله طارق :

- وماذا عن أوراقي وجواز سفرى ؟

- لا تقلق ستجدها أمامك في باريس فور خروجك من باب المطار . ستجد شخصاً ينتظرك هناك ومعه كل ما تريد . ناوله جواز السفر الإسرائيلي وسيعطيك أغراضك ثم تتجه إلي الفندق نفسه الذي كنت تنزل فيه وسوف اتصل بك غداً صباحاً .

تدريب شاق

سار كل شئ في باريس كما أشار زكى الذي كان يتصل به في الصباح طالباً منه أن يتوجه لملاقاته في أحد المقاهي , وأوصاه أن لا يحادثه حين يراه بل يبتعد على بعد 20 متراً .

لم يتحرك طارق من مقعده حين لمح زكى مقبلاً , وانتظر حتى التقت عيونها وواصل زكى سيره أمام المقهى . دفع طارق الحساب وتبع ضابط " الموساد "الذي كان يحمل شفى يده في يده صحيفة ما لبث أن ألقاها في سلة قمامة على الرصيف وهو ينظر بزاوية عينه اليمنى إلى طارق ثم واصل السير , وبعد قليل تناول علبة سجائر فوقعت منه على الأرض فانحنى يتناولها وهو يستدير إلى الخلف وظل يمشى وطارق يتبعه حتى وصل أمام أحد الفنادق ودخلا معاً إلى المصعد الذي نقلهما إلى الطابق الرابع . فتح زكى الباب فإذا في الغرفة رجل , قدمه لطارق باسم ديفيد .

بعد لحظات نهض ديفيد وأحضر جهاز إرسال لاسلكياً وضعه على الطاولة وقدم رزمة أوراق إلى طارق وهو يقول له :

- هل تستطيع إجراء برقية لاسلكية الآن ؟

- أحاول .

بدأ طارق في العمل تحت عيني ديفيد وزكى . كان ديفيد يوجهه ويزيده تدريباً , ثم أخرج له صورة " بولا رويد " لماكينة فرم اللحم , بدأ في داخلها جهاز إرسال مثل الذي أمامهم , وقال زكى لطارق : " هذه الماكينة ستأخذها معك إلى بيروت . زكما ترى في الصورة فان الجهاز داخلها ولا يمكن لأي شخص أن يعثر عليه دون أن يكسر الماكينة , وكما تعلم فانهم في المطارات لا يكسرون شيئاً . في بيروت تقوم باستئجار شقة يفضل أن تكون في منطقة مار الياس لأن الإيجار هناك رخيص والمنطقة هادئة نوعاً ما , ويجب أن تكون الشقة في آخر طابق بعيدة عن البنايات العالية . خصوصاً الأعلى من بنايتك واختر هوائياً للجهاز كهوائي تلفزيون أبيض وأسود . أما مواعيد الاتصال فثابتة يومي الأربعاء والسبت الساعة 8.30بتوقيت بيروت , كما في إرسال الأربعاء على الموجة 5.6 و5 .7 . أمات النداء الخاص بنا وبك فهو " ألفا روميو تانجو تو " عبر الإذاعة الإسرائيلية.

وهذه النقطة جديرة بالتوقف عندها للإشارة إلى دور الإذاعة الإسرائيلية المسموعة جيداً في كل الوطن العربي . فبالإضافة إلى دورها في استخدام الحرب النفسية ضد العرب وطرح نفسها كبديل من الإذاعات العربية , تقوم بدور خطير عبر الاتصال بالعملاء في الخارج , والأجهزة الأمنية في الثورة الفلسطينية دائبة على تتبع النداءات التي تبث إذاعيا من إسرائيل , وقد أصيبت هذه الأجهزة بدهشة بالغة حين رصدت نداءات لعملاء في دور عربية لا تخطر على بال مما يدل على أن إسرائيل لا تستهدف الثورة الفلسطينية وحسب , ولا لبنان وحده أو الأردن أو سوريا أو مصر , فهي تسعى للسيطرة على الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج في طموحها الإستراتيجي لأن تكون " دولة عظمى " ولعل في ضرب المفاعل النووي العراقي إشارة إلى المخطط الإسرائيلي . بل إن إسرائيل تخطط لضرب المفاعل النووي الباكستاني .

ناول زكى طارق مبلغ 8 آلاف دولار , كما أعطاه ماكينة فرم اللحم التي تحتوى على جهاز اللاسلكي في قاعدتها , وقال له : " هذه دفعة على الحساب وسنحول لك كل ما تحتاج من دولارات على حسابك فى بيروت "

كذلك أعطاه 15 بدلة رجالية ثمن الواحدة 75 دولاراً كغطاء يبرر به سفره , وقبل أن يسافر الفتى أوصاه ضابط " الموساد " بأن لا يطلع خليل على الجهاز ولا يخبره بأي شئ عنه . " ثم لا تأت إلى أوروبا في المرة المقبلة إلا والنقيب خليل معك " .

لدى وصوله إلى بيروت بدأ طارق رحلة جديدة من العمل . بحث عن شقة تحمل المواصفات المطلوبة حتى وجد واحدة مثالية , وبسرعة انكب على العمل , ركب الجهاز والهوائي وأرسل البرقية التالية إلى إسرائيل : " ألفا روميو تانجو تو بخير كل شيء على ما يرام " . وجاء الرد تهانينا , استلمنا جيد والهوائي ممتاز , أخبرنا بكل جديد " .

" إسرائيل " واغتيال السادات

كانت المخابرات الفلسطينية تقوم برصد هذه البرقيات المرسلة بالراديو من إسرائيل على التردد ذاته والترددات الأخرى المستخدمة فوجدت نداءات متعددة ومختلفة فقد استفادت " الموساد " من اضطراب الوضع في لبنان وازدواجية العمل في المنظمات الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وانعدام التنسيق الفعلي بينها على مستوى الأجهزة الأمنية وفى هذه الأجواء زرعت " الموساد " مجموعة كبيرة من العملاء في أكثر من موقع تديرهم باللاسلكي وهكذا بدأت الرسائل تصل تباعاً تسأل , ماذا حصل في مكتب أبو على . وأين اختفى أحمد الحلاق ؟ وما الجديد في " الصاعقة " ؟ وهل هناك عمليات جديدة ل" الصاعقة " داخل أو خارج ( إسرائيل ) ؟ " .

كان النقيب خليل يجيب عن كل هذه الأسئلة ويستغرب في الوقت نفسه سرعة وصول الأسئلة وإيصال الأجوبة فسأل طارق " شو القصة " فقال له : " هناك شخص يأتى في الأسبوع مرة إلى بيروت يجمع البريد " .

في تلك الفترة كانت " نشور الثورة " تخطط لاغتيال الرئيس المصري أنور السادات , وتم وضع الخطة فعلاً , إذ أنيطت بالنقيب خليل مهمة توصيل عنصرين إلى القاهرة . ومهمة إدخال الأسلحة إلى مصر بانتظار الفريق المكلف بالاغتيال . وعلى الأثر قامت إسرائيل بإبلاغ السادات بالعملية من خلال السفير الأمريكي في تل أبيب وزودته باسمي العنصرين المكلفين بإدخال الأسلحة وأرقام جوازي السفر وموعد الوصول إلى مصر . وما إن حط الرجلان في مطار القاهرة حتى كانت المخابرات المصرية في استقبالهما فاعتقلتهما على الفور في أوائل يوليو ( تموز ) 1979 .

وفى حادثة أخرى خططت " نسور الثورة " لعملية ضد السفارة المصرية في أنقرة وكلفت فريقاً من أربعة عناصر لتنفيذها , وقام خليل بتصوير جوازات السفر والتأشيرات , ثم أرسل طارق بالاسلكى برقية مفصلة بالعملية وموعدها والقائمين بها , إلا أن " الموساد " أخفت هذه المرة كل شئ عن المصريين ولم تبلغهم بهدف الإيقاع بين مصر والفلسطينيين بشكل عام وبين مصر وجهة عربية تدعم " الصاعقة " , فكانت النتيجة أن وصلت العناصر إلى أنقرة واحتلوا السفارة المصرية في 13/7/1979 بعد تبادل النار مع حرس السفارة ورجال الأمن الأتراك مما أسفر عن مصرع رجلي بوليس تركيين , قبل أن تحتجز المجموعة السفير المصري ومعه 20 شخصاً من موظفي السفارة كرهائن سيتم قتلهم إذا لم تنفذ مطالب الخاطفين , وهى كالتالي :

- إلغاء اتفاقيات كامب دايفيد بين مصر وأمريكا و ( إسرائيل ) .

- الاعتراف بشرعية الدولة الفلسطينية .

- ضمان مستقبل الشعب الفلسطيني .

- الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين في مصر ( وهما العنصران اللذان قبضت عليهما المخابرات المصرية بسبب دور النقيب خليل وطارق ) .

- تخصيص طائرة لنقل الفدائيين والرهائن إلى بلد عربي من اختيار الخاطفين بعد إخلاء مطار أنقرة من كل الطائرات باستثناء الطائرة المخصصة لذلك. ثم حددوا موعداًًُ نهائياً لتلبية مطالبهم في تمام الساعة الثانية والنصف بعد الظهر مهددين بقتل رهينة كل خمس دقائق .

أدركت إسرائيل أن السادات رجل حاد المزاج , فالمقاطعة العربية لمصر زادته اندفاعاً باتجاه ( إسرائيل ) وأمريكا وهو يتخذ قراراته بناء على مشاعره الشخصية وحالة مزاجه في لحظة القرار , لكن القائد الفلسطيني ياسر عرفات أدرك الأبعاد السياسية للعملية فقام على الفور بإرسال وفد أمنى فلسطيني إلى أنقرة لتفويت الفرصة على ( إسرائيل ) .

وقد صرح مصطفى خليل رئيس وزراء مصر آنذاك بعد اطلاعه على مطالب الخاطفين بأن مصر تحمل مسؤولى العملية لمنظمة التحرير الفلسطينية , جواي ديبلوماسي يتعرض له الخاطفون بسوء يدفع مصر إلى اتخاذ خطوات انتقامية ضد منظمة التحرير , أما منظمة التحرير فنفت كل علاقة لها بالعملية وقام الأتراك بإبلاغ مصر أن الخاطفين ينتمون إلى جناح " نسور الثورة "التابع ل" الصاعقة " . عندما قامت إسرائيل بالسعي إلى تنفيذ مخططها فعرضت على مصر خطة لاغتيال زهير محسن لاقت صدى كبيراً لدى السادات نفسه والقيام بعمليات ضد مصر .

إلا أن نتيجة العملية جاءت مفاجئة لإسرائيل , فقد استلم الخاطفون بعد مباحثات مضنية قام بها مبعوث عرفات " أبو فراس " كما أسفرت عن فتح مكتب رسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية في أنقرة , مما شكل انتصاراً سياسياً لعرفات وتراجعاً ا " نسور الثورة " و" الصاعقة " .

لم يفهم خليل ولا طارق ما جرى في تركيا آنذاك ولم يدركا لماذا سمحت إسرائيل بنجاح العملية . ولم ينتبها إلى مغزى الرسائل البرقية التي كانت تصل إلى طارق تطالب بمعلومات تفصيلية عن زهير محسن لأن إزاحته تعنى الكثير لإسرائيل داخلياً وخارجياً .

ففي أمريكا وأوروبا على الصعيدين الرسمي والشعبي ستظهر إسرائيل أنها الدولة الوحيدة القادرة على وضع حد ل " الإرهاب " ثم إنها تقدم خدمة للسادات وتظهر أمام شعبها في الداخل بأنها جادة وقادرة على الوصول إلى رؤوس الثورة الفلسطينية . كذلك يشكل اغتيال زهير محسن نظراً لتركيبة " الصاعقة " نهاية هذه المنظمة وانهيارها وإزاحة شخص من أكبر المناهضين لاتفاقية كامب دايفيد وبالإضافة إلى زهير محسن خططت إسرائيل أيضاً لاغتيال أحمد الحلاق بصفته مسؤولاً عن العمليات الخارجية ل " الصاعقة " فانهالت البرقيات على " شيخ المشايخ " تطالب دائماً بأية معلومات عن حراسة ومكان وجوده وسفر أي من الرجلين : زهير محسن وأحمد الحلاق . وكانت حصيلة المعلومات تؤكد لإسرائيل صعوبة اغتيال زهير محسن في بيروت لكنها درست الخطة جيداً وتوصلت إلى أن عملية ضده شخصياً ستكون كبرى والأفضل توسيع أهدافها لتشكل رؤوساً أخرى في منظمة التحرير مثل أبو عمار وأبو جهاد وأبو الهول .

واستغرب " شيخ المشايخ " استلامه لبرقية تسأله عن " بادرماينهوف " وأعضائها في بيروت والقواعد البحرية وقواعد " فتح " في منطقة الاوزاعى وخلدة والدامور وأبو الأسود والسعديات .

لكن لا طارق تردده ولا النقيب خليل استعصى عليه الحصول على المعلومات التي أرسلت إلى ( إسرائيل ) بسرعة وانتظام .

الفصل السابع

اغتيال زهير محسن

بعد عملية السفارة المصرية في أنقرة جرت اتصالات حثيثة بين

" الموساد " ومخابرات دولة ... للتنسيق بينهما بهدف اغتيال زهير

محسن .

في أوائل يوليو( تموز ) عام 1979 أرسل طارق إلى " الموساد " البرقية التالية : سيسافر زهير محسن إلى منروفيا , وفى 23يوليو ( تموز )سيكون في مدينة نيس الفرنسية " .

اختير زهير محسن رئيساً للوفد الفلسطيني في اجتماعات مؤتمر الوحدة الأفريقية الذي انعقد في العاصمة الليبيرية منروفيا , لمناقشة الوضع في جنوب أفريقيا والصحراء والشرق الأوسط وحرب أوغندا وتشاد وقمة دول عدم الانحياز التي عقدت فيما بعد . ولعل أهم ما في مؤتمر منروفيا آنذاك حضور السادات له , فقد كلن بحاجة ماسة إلى دعم أفريقيا له نظراً للمقاطعة التي يعيشها نظامه مع الدول العربية . وقد وصل السادات إلى منروفيا وسط حراسة مشددة جداً لم تشهدها العاصمة الليبيرية في تاريخها . وكان رجال المخابرات المصرية قد سبقوا السادات إلى هناك ,إذ وصلت في السابع عشر من تموز ( يوليو ) 3 طائرات عسكرية مصرية محملة بهم , وكان السادات يدرك جيداً أنه سيواجه حالة عداء من بعض الرؤساء الحاضرين الذين يناهضون اتفاقيات كامب دايفيد .

كانت مهمة رجال المخابرات المصرية تنحصر في اتجاهين : حماية الرئيس السادات ومراقبة الجهات المناهضة له .

في افتتاح القمة , أشار الرئيس وليام تولبار في خطابه إلى أن أفريقا لا يمكنها أن تقبل في أي حال من الأحوال بوجود إسرائيل فوق الأراضي العربية المحتلة بقوة السلاح . كذلك أشار الرئيس الحال موسى تراورى إلى الوضع المقلق في منطقة الشرق الأوسط وصرح بأن اتفاقيات كامب دايفيد الجزئية هي السبب في زيادة حالة التوتر .

في اليوم التالي للمؤتمر , وعندما نهض الرئيس السادات لالقاء خطابه , خرج معظم رؤساء الوفود من القاعة , كرؤساء وفد تونس والجزائر والمغرب وليبيا وموريتانيا والصومال وجيبوتي ومدغشقر وبنين وموزمبيق وأنجولا , وانتهى القمة صباح الحادي والعشرين من شهر يوليو ( تموز ) في وجود معاد للسادات واتفاقية الصلح المنفردة مع (إسرائيل ) إذ صدر قرار عن القمة يندد بالمعاهدات المنفصلة واعتبرها عقبة تمنع الشعب الفلسطيني من تحقيق طموحاته الشرعية في تقرير مصيره واستعادة وطنه بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية , قائده الشرعي والوحيد , كما استطاعت القمة الأفريقية تلك عزل كامب دايفيد تماماً في أفريقيا . وواجه السادات عزلة خانقة . فهو لم يكن قد زار أية دولة سوى الولايات المتحدة وإسرائيل.

أما زهير محسن فقد حقق لمنظمة التحرير الفلسطينية انتصاراً سياسياً كبيراً في أفريقيا على هذا الصعيد . ولم يكن يدرى أن هناك رقابة خفية تحصى عليه أنفاسه , علماً بأنه شعر بها , لكنه عزاها إلى الاحتياطات الأمنية التي اتخذتها ليبيريا لحماية الوفود . والى الحماية التي يوفرها جهاز الأمن الفلسطيني المرافق له .

مصيدة كان

من منروفيا توجه زهير محسن برفقة زوجته إلى مدينة كان في فرنسا مباشرة حيث استأجر هناك شقة شفى بناية " جرى دالبيون " في حي لاكروازيت باسم مستعار , فقد كان ينوى الإقامة مدة شهر كامل . وصار يقضى النهار مع زوجته علية الشاهد في الأسواق والمتنزهات وزيارة الأماكن السياحية في تلك المدينة الناعمة .

ومساء الثلاثاء 24 يوليو( تموز ) خرج زهير محسن من الشقة وحده ليتعرف على ليل هذه المدينة . وطالت سهرته حتى الفجر فعاد إلى " جرى دالبيون " وضغط على جرس الشقة , فظهرت لزوجته صورته على شاشة الجهاز المتصل بجرس الباب ففتحت له ليصعد إليها , وما كاد يطرق باب الشقة حتى ظهر شخص كان مختبئا على درج العمارة . التفت إليه زهير محسن بسرعة فانطلق الشخص النار على زعيم " الصاعقة " لتخترق الرصاصة القاتلة جبينه , منفجرة في رأسه . فسقط على الفور قتيلاً أمام عيني زوجته وصراخها , لتكون هي الشاهدة الوحيدة على عملية اغتيال زوجها .

أما بواب العمارة فقد شاهد شخصين أحدهما ملامحه أوروبية والآخر أسمر البشرة , ينطلقان في سيارة كانت متوقفة على مقربة من العمارة . وكانت علية قد وصفت الشخصين للشرطة الفرنسية التي توصلت إلى أن القاتل ألماني الجنسية يعمل قاتلاً محترفاً أما السائق الذي كان يرافقه ... الجنسية , وكانا قد توجها قبل يومين من حادثة الاغتيال إلى شقة زهير محسن التي استأجرها باسم صديقه السفير اللبناني السابق في بلجيكا بحجة البحث عن عمل , فتعرفت عليهما الخادمة من صورهما .

وحملت سوريا إسرائيل مسؤولية اغتيال زهير محسن في بيان رسمي أما ياسر عرفات فقد أشار بعد تشكيله لجنة تحقيق ضمت كلا من " أبو الزعيم" وماجد محسن ومحمد دغمان و" أبو السعود " إلى ضلوع مخابرات دولة عربية في اغتيال زعيم " الصاعقة " الذي شيعت عشرات الألوف جنازته من " مستشفى المواساة " في دمشق إلى " مقبرة الشهداء " في مخيم اليرموك وكان الرئيس حافظ الأسد في مقدمة المشيعين .

قبل الاغتيال

قبل تنفيذ العملية كانت " الموساد " تلح على طارق وخليل بالسفر خارج بيروت إلى أية عاصمة أوروبية , فاختارا الإمارات , لكن خليل طلب أن يكون السفر إلى قبرص فقط لأن الدانمارك غالية وبعيدة , وقد يشك فيه رؤساؤه , وبالرغم من أن طارق أعطاه ألف ليرة لبنانية إلا أن خليل طلب من " أبو على " 500 ليرة قائلاً له أنه يريد أن يرتاح عدة أيام في قبرص.

سافر خليل إلى قبرص بمفرده , ثم لحق به طارق في 20 يوليو ( تموز ) قبل حادثة الاغتيال بخمسة أيام فقط , فقد أرادت " الموساد " أن تؤكد نجاح العملية وتبعد هذين الاثنين عن بيروت وأن تورطهما أكثر لا.

في ردهة الصالون في فندق " كينيدى " في نيقوسيا التقى طارق بصديقه النقيب خليل فتحادثا وشربا معاً . ثم نهض طارق واتصل بالسفارة الإسرائيلية حيث ترك خبراً لضابط " الموساد " زكى وعاد إلى الحديث مع النقيب خليل :

- هل تعرف يا خليل مع أي مخابرات تعمل ؟

ورد خليل :

- طبعاً أعرف مع مخابرات حلف الأطلسي .

فقال طارق وهو يبتسم :

- لا .

هز خليل كتفيه وهو يقول :

- لا يهم أي مخابرات والسلام .

انزعج طارق من برودة صديقه وعم مبالاته فقال :

- انك تعمل مع المخابرات الإسرائيلية .

ولاحظ طارق أن خليل لم يكترث ولم يرف له جفن , انهم يدفعون باستمرار ويدفعون جيداً .

في المساء اتصل زكى بطارق مرحباً وسائلاً :

- هل أحضرت صديقنا معك ؟

- نعم . انه شفى الحجرة المجاورة لحجرتي , وهو يجلس الآن بجواري .

- برافو عليك , هل أستطيع أن أتحدث معه ؟

قدم طارق السماعة إلى خليل قائلاً :

- انه يريد أن يتحدث معك .

- من هو ؟

- جورج .

كانت الأوراق دائماً تصل إلى خليل موقعة باسم " جورج " فتناول السماعة وهتف .

- ألو

- أهلاً بالأخ خليل , إن شاء الله مرتاح في نيقوسيا ؟

ورد خليل بشكل معتاد .

- الحمد لله .

- غداً سنراك أظن الساعة الخامسة ؟

- إن شاء الله .

في صباح اليوم التالي سمع طارق وخليل خلال الإذاعة خبر اغتيال زهير محسن شفى فرنسا في الوقت الذي كانا يتجهان لمقابلة ضابط " الموساد " . كان خليل يخشى في قرارة نفسه أن ينتقم منه الإسرائيليون لأنه جندياً حارب شفى إحدى الجبهات العربية 1973 إبان حرب أكتوبر(تشرين الأول) فقال لطارق :

- اسمع يا طارق : إذا سجنوني أو اعتقلوني قم بإبلاغ منظمة التحرير الفلسطينية وقل لهم أنهم خطفوني بالقوة . وإياك أن تتفوه بأي شيئاً عما قمنا به .

لكن زكى سرعان ما أراح بال خليل إذ استقبله بترحاب كبير وهو يقول :

- يا عيب الشوم يا حضرة الضابط , هل نحن بلا مبدأ ؟ أنت ضابط وأنا ضابط مثلك , ونحن نحترم الزمالة ولا ننتقم من أفراد . نحن عداوتنا مع دول وننتقم من دول . أما أنت معنا ونحن في خندق واحد .

لم يكن خليل يتوقع مثل هذا الاستقبال فانتهز الفرصة بعد دقائق قليلة ليقول لزكى :

- أنا مريض جداً , وأعانى من أمراض كثيرة في بطنى وأذني وأماكن أخرى

هل تعالجونني ؟

- بس هيك ؟ بسيطة , في " مستشفى هداسا " سيخلقونك من جديد .

ثم دار حديث حول السفر إلى تل أبيب والطب في إسرائيل وما إلى ذلك قبل أن يتذكر خليل مصرع زهير محسن فقال :

- ولو كيف تقتلون زهير محسن ؟ خلاص قتلتوه ومات ؟ !

سؤال فيه الكثير من السذاجة والكثير من الغباء , علماً بأن النقيب خليل لم يكن غبياً إلى هذا الحد , ولكنه كان بحاجة نفسية لالقاء مسؤولية القتل على جهة أخرى بعيداً عنه . وكان يتمنى لو لأنه يسمع جواباً بالإيجاب , لكن زكى قال باستخفاف :

- نحن لم نقتل زهير محسن . لقد قتل زهير لانخراطه في أمور مادية ودنيئة ولو أن كل قيادات الفلسطينيين مثل زهير محسن لكننا نحن حميناهم . وأنت تعرف لأننا حين نقتل واحداًُ من زعماء المنظمات فإننا ننشر الخبر ونذيعه على العالم كله .

وبالرغم من كل الأوصاف السيئة والأعمال المشينة التي نسبها ضابط " الموساد " إلى الزعيم الفلسطيني زهير محسن , إلا أن الثلاثة كانوا يعرفون في قرارة أنفسهم انهم مسؤولون عن اغتياله .

وفجأة توجه زكى إلى خليل بالقول :

- إنني أفهم دوافع طارق للعمل معنا , ولكنني لم أفهم إلى الآن كيف وافقت أنت على العمل معنا بهذه السرعة ؟

فقال خليل :

- في الواقع لو أنكم طلبتم منى أن أعمل ضد بلدي لترددت كثيراً ... ! ولكنني وافقت على العمل معكم لأن سياسة " الصاعقة " لا تعجبني , بالإضافة ألي صعوبة حصولي على منصب كبير فيها .

شفى اليوم التال طلب زكى من طارق أن يدفع أجرة الفندق عنه وعن خليل ويحزما أمتعتهما بعد أن يقول لموظف الاستقبال أنهما ذاهبان إلى لارنكا , على أن يأتى بجواز سفره وجواز سفر خليل وكل الأوراق الأزمة إلى مكتبه في السفارة الساعة الخامسة مساء وأن لا يحضر خليل نفسه إلى السفارة , خذ جواز سفره ودعه ينتظر في مكان عام " .

نفذ طارق الأوامر بحذافيرها في اليوم التالي , وترك خليل في محل " فليبر " ليمر على زكى في الموعد المحدد الذي أخذ منه جازى السفر والأوراق التي طلبها . ثم ناول طارق جواز سفره الإسرائيلي وجواز سفر إسرائيليا جديداً لخليل وتذكرتي سفر على إحدى البواخر المنطلقة من مدينة ليماسول.

عرج طارق على خليل في محل " الفليبر " وقال له : " هيا بنا " . خرجا من المحل وأوقف طارق سيارة أجرة طلب من سائقها أن يوصلهما إلى لارنكا , فوافق السائق الذي انطلق بهما بسرعة فائقة . وفى منتصف الطريق طلب من السائق أن يأخذ طريق ليماسول ولما استفسر السائق عن السبب قال طارق :

- أعتقد أن ليماسول اجمل وهناك الكثير من السائحات على الشواطئ .

نوم عميق

في ليماسول نزلا أمام أحد الفنادق ونقد طارق سائق التاكسي أجرته , وانتظرا حتى غاب عن عينهما , ثم استقلا سيارة أجرة واتجها إلى الميناء . في الطريق سال طارق خليل :

- هل يصيبك دوار البحر ؟

فرد خليل :

- لا طبعاً , شو مفكرنى أنا ضابط بحرية أساساً ؟

ابتسم طارق وهو يقول :

- عظيم إذن .

عند حاجز الأمن , قال طارق لضابط التفتيش وهو يسلمه جوازي سفرهما " صديقي لا يجيد غير اللغة العربية " هز الضابط رأسه بلا اكتراث وسمح لهما بالدخول , فجلسا قرابة الساعة على الرصيف أمام الباخرة قبل أن يعبر زكى ويصعد إلي ظهر الباخرة مشير لهما بأن يتبعاه وهو يحمل جواز سفره بيده . فهم طارق الإشارة وتقدم من رجل الأمن على مدخل الباخرة حيث قدم له جوازي السفر فأدخلهما العسكري ليستلهما زكى حيث أوصلهما إلى إحدى الغرف قائلاً :

- هذه " الكابين " لكما .

وانصرف زكى ليعود بعد قليل حاملاً مشروباً وتسالي وسجائر , وجلس يتحدث معهما موجهاً اهتمامه إلى خليل .

تحدثوا عن البحر وحالة خليل المرضية , مما جعل خليل يستريح نفسياً حين قال له زكى : " سوف نعالجك في " مستشفى هداسا " على يد أمهر الأطباء في العالم لتعود شباباً من جديد " .

بعد فترة نهض زكى مودعاً وهو يقول :

- لا تخرجا من " الكابين " إطلاقا فهناك على الباخرة طالبان من الضفة الغربية استقلا المركب من ايطاليا .

فما كان من خليل أن شرع في النوم كأنه في بيته , ليبدأ بعد دقائق عملية شخير مزعجة لم يستطع طارق أن يتحملها فخرج من " الكابين " في تلك الساعة المتأخرة من الليل , وظل يتمشى ويراقب البحر حتى جاء عمال النظافة في الصباح فساعدهم , قبل أن يوقظ خليل في تمام الساعة السابعة حين بدأ الشاطئ الفلسطيني من بعيد . خرج خليل من " الكابين " وتطلع حوله في البحر فوجد زورقين حربيين إسرائيليين يرافقان الباخرة آتى بدأت تدخل في ميناء حيفا .

وبعد أن نزل جميع الركاب , نزل الثلاثة من الباخرة حيث كانت هناك سيارة في انتظارهم . طلب زكى من سائقها واسمه ديفيد أن ينطلق بهم إلى تل أبيب . وبعد دقائق من انطلاق السيارة قال زكى وهو يشير بيده :

- هنا حصلت عملية الأوتوبيس التي قادتها ال...دلال المغربي .

يا للمفارقة ! الأبطال مروا من هنا بدمائهم وها هم الخونة يمرون . ورغم إن الملاحظة أثارت في الاثنين حب الاستطلاع إلا أنهما مسحا وجهيهما بشكل عفوي يشويه الارتباك , وكأن الأرض قد بصقت عليهما .

اتجهت السيارة ناحية " الكانترى كلوب " حيث نزل كل منهم في " كابين " خاص وأوصاهما زكى أن لا يفتحا الباب لأي إنسان سوى السائق ديفيد أو ضابط " الموساد " الآخر سامي . ثم انصرف ليعود في الرابعة والنصف بعد الظهر يراقبه ضابطان من " الموساد " فجلسوا جميعاً في حجرة الضابط خليل الذي طلب منه زكى أن يحدثهم عن نفسه وعائلته منذ البداية ومنذ كنت طفلاً . فبدأ يحكى لهم وهو يتأتىء ’ فضحك طارق مما أثار خليل فصرخ زكى شفى وجه طارق : " اذهب إلى حجرتك ودعنا نعمل " .

فنهض طارق وغادرهم ليواصل الضابط خليل سرد حكايته منذ البداية .

الفصل الثامن

سقوط النقيب خليل

شكل خليل صيدا ثميناً ل " الموساد " . فها هو ضابط " الصاعقة " ومسؤول الأمن فيها عن منطقة الحمراء في بيوت , يجلس مع " ضابط الموساد " فى تل أبيب يعصرونه عصراً , ولم يشأ زكى أن يضع أي قيد نفسي على خليل فمر بطارق في غرفته وقال له :

- نحن مشغولون هذه الليلة مع خليل لكنني سأمر بك في الصباح .

كانت ليلة طويلة على خليل , لذلك حين مر زكى بطارق في الصباح . كانت الساعة حوالي العاشرة. تناولا الإفطار معاً وأعطاه صحيفة " القدس " كي يتسلى بقراءتها بينما ذهب زكى إلى غرفة خليل .

بعد ساعة , مل طارق من الجلوس وحيدا, وكان قد أنهى قراءة الجريدة فتوجه إلى حجرة خليل ليرى هناك زكى ومعه ضابط آخر من " الموساد "وخليل متحلقين حول مجموعة من الخرائط لسورية ولبنان وإسرائيل لكن طارق ما يلبث طويلاً ,فقد نهض زكى وتأبط ذراعه قائلاً :

- هيا بنا ودعهم يكملون عملهم :

وأدرك زكى أن طارق قد مل من البقاء وحيداً فقال له :

- سأعود بعد خمس دقائق ومعي خبير في استخدام الكربون السري ليدربك على الكتابة به فتكتمل وسائل اتصالاتنا تماماً .

وتجدر الإشارة هنا إلى أن مجموعة ضباط " الموساد " التي قابلت خليل وطارق , هي المجموعة المتخصصة في شئون " الصاعقة " . إذ أن " الموساد " تتكون من خلايا تصب كلها في شبكة واحدة . فمنذ ظهور المنظمات الفلسطينية , تلك تخصيص مجموعات من خيرة ضباط " الموساد " لكل واحدة من المنظمات , تتابع نشاطاتها وتدرس أفكارها وأدبياتها وتتجسس على عناصرها وقيادييها وتحتفظ بكل ما يصدر عنها حتى أصبح ضباط " الموساد " المتخصصون كأنهم أعضاء في المنظمات الفلسطينية يفكرون بالطريقة التي فكر فيها عضو التنظيم أو القيادي , ولم يكن خليل بالطبع على علم بما يدور في " الصاعقة " , فقط ولكنه كان يعلم إلي حد ما أشياء عن المنظمات الأخرى . وقد كان اهتمام " الموساد " به في تلك الفترة نابعاً من تخطيط إسرائيلي لاجتياح لبنان , فهي بحاجة لتجميع كل ما يمكن جمعه من معلومات . وبحاجة أيضاً إلى تأليب الشعب اللبناني على الفلسطينيين بالطلب من عملائها – ومنهم خليل – القيام بأعمال استفزازية للمواطنين اللبنانيين , وافتعال حوادث عنف واعتداءات ضد الشعب اللبناني والممتلكات الخاصة . حتى أصبح خليل مع غيره , بعد عودته من تل أبيب مثالاً للبلطجة والرشوة والفساد والتخريب وكانت الناس في لبنان تعرف هؤلاء الأشخاص جيداً , لكنهم لم يفكروا يوماً بأنهم عملاء لإسرائيل بل كانوا يعتقدون أنهم " مسنودون " من قياداتهم وأن المسألة مسألة هرم أو صندوق تفاح لا يقتصر التعفن على بضع تفاحات فقط , علماً بأن أعمال البلطجة والتخريب تلك ما كانت لتخدم إلا المصلحة الإسرائيلية . لكن أحداً في تلك الأيام لم يتوقف أمام نفسه ليطرح عليها هذا السؤال لمصلحة من تتم هذه الأعمال ؟ ومن هو المستفيد منها ؟

من المؤكد أن هذه الأعمال كانت تسيء أعظم الإساءة إلى المنظمات الفلسطينية وقياداتها , لذلك أقدمت منظمة التحرير في العديد من المناسبات على إعدام مثل هذه العناصر كالحرية .

بعد عصر خليل وتدريبه على الكربون السري والبخار طلب من زكى أن يعود إلى بيروت ويؤجل مسألة العلاج إلى مناسبة ثانية , ذلك أنه تخوف أثناء عملية اغتيال زهير محسن ,وهو في الخارج من أن يحوم الشك حوله .

بعد دقائق كان زكى قد أمن لخليل سفره بالجو إلى قبرص , ومن قبرص إلي بيروت على " الميدل ايست " في اليوم التالي , ثم ناوله مبلغ 2000 دولار , وهو يقول له : " هذه مكافأة , ولك بذمتنا كل شهر 200 دولار " . تخلف طارق في تل أبيب مدة يومين حيث اصطحبه زكى إلى ايلات وطاغ به على بعض الأماكن السياحية ثم أعطاه مبلغ ألف دولار قبل مغادرته إسرائيل إلى بيروت , عبر باريس كما حدث في المرة السابقة .

وجد طارق خليل منهمكاً في أعقاب اغتيال زعيم " الصاعقة " . ولما سأله ماذا قالوا له في تل أبيب رد بإيجاز شديد : لا شيء , مثل العادة فقط . وكانت البرقيات الإسرائيلية تتوالى على بيروت تسأل : هل هناك عمليات خارجية ؟ وهل سينتقمون لزهير محسن ؟ ومن سيخلفه ؟ وهل هناك تغيرات في جهاز الأمن ؟

في هذه الفترة , تجمعت لدى المخابرات الفلسطينية كمية من المعلومات حول تحركات طارق والنقيب خليل ( لم يسمح بذكر المصدر ) . وعلى الأثر عقد اجتماع شفى مقر مكافحة التجسس في بيوت حيث جرى نقاش طويل امتد أكثر من جلسة حول المعلومات وطرقة المعالجة والتنفيذ .

ثم اختلى أبو محمد رئيس الفرقة باثنين من ضباط المكافحة لتقرير كيفية التعامل مع الضباط خليل وطارق , قال الضابط حسين :

- أرى أن نقوم باعتقالهما فوراً .

وطال النقاش مرة أخرى إلا أن أبو محمد حسم الجدل أخيراً بقوله :

- قبل اتخاذ أي خطوة حاسمة يجدر بنا أن نعرف كل شىء وكل المعلومات التي وصلت إلى العدو عن طريقهما , وكل ما سيوصلانه حالياً وفى المستقبل .

عميل مزدوج

وضعت أجهزة تنصت في منزل كل من خليل وطارق . فقد قرر أبو محمد سلفاً التخلص من خليل بالقتل لأن اعتقاله سيؤدى إلي مشاكل مع" الصاعقة" وغير " الصاعقة " . أما طارق فقد كانت خطة أبو محمد تقضى بتشغيله عميلاً مزدوجا ً , إذ أن خليل لا يصلح لهذه المهمة فهو متهور وقليل الاتزان , بعكس طارق آذى هو في الأساس أصل المشكلة وبيت الداء .

وقامت الفرقة بإعلام ثلاثة من كبار المسؤولين في " الصاعقة " بعمالة خليل , كما قامت بإبلاغ جهاز أمن عربي بمهمة خليل . فتم الاتفاق بين الأطراف الثلاثة على ترك المسألة للمخابرات الفلسطينية تتصرف كما تشاء .

وضع أبو محمد خطة دقيقة للعمل . فهو صاحب خيرة طويلة في العمل السري , وملفه في " الموساد " ضخم ومعروف باسم " الرجل الزئبق " لصعوبة تثبيته في مكان معين أو محاصرته أو معرفة مكانه , فهو لا يسلك طريقاً واحدا ً مرتين متتاليتين , ولا يبيت في مكان معين مرتين , وشكله لا يوحي بقدراته ولا يثير الانتباه , وكان قد اعتقل في الماضي في إحدى الدول العربية . وحين دخل على العقيد ضابط التحقيق فوجئ هذا الأخير به , فقد كان يظن أنه سيواجه رجلاً جباراً عنيفاً , ضخم الجثة , فدهش وأبو محمد يدخل عليه نحيفاً متوسط الطول لا تبدو عليه أية صفة من تلك الصفات الموجودة في الملف الضخم أمامه فقال بعفوية سائلاًُ :

- أنت أبو محمد ؟

ولما أومأ بالإيجاب عاد يسأل :

- غير معقول . وهل أنت قادر على القيام بكل هذه الأعمال التى تملأ هذا الملف ؟

لم يبتسم أبو محمد ولم يرد , فقد فوجئ بأن يسأله ضابط عربي كبير يحقق معه كمجرم في أعمال قام بها ضد العدو الإسرائيلي . فقد كان العمل الفدائي الفلسطيني أيامئذ غير مسموح وغير مقبول في عدد من الدول العربية .

قرر أبو محمد في ظل الظروف الفوضوية والصعبة آتى يواجهها العمل الفلسطيني وتفوق " الموساد " التكنولوجي أن يتصرف بدهاء وحكمة . فقد كان طبيعياً أن يكتشف عميل ما في إحدى المنظمات فيهرب إلي منظمة أخرى ليستقبل فيها استقبال الأبطال خصوصاً إذا كانت بين المنظمتين شئ من الحساسية .

كان قرار أبو محمد يقضى بتصفية خليل جسدياً في خطة مدروسة لا تثير الشك , فهناك العديد من عملاء " الموساد " في بيروت غير طارق وستصل أخبار قتله إلى " الموساد " في اليوم ذاته .

استدعى أبو محمد ثلاثة من رجاله المختصين في الرماية بالمسدسات . وعرض عليهم عشرات الصور التي التقطتها المخابرات الفلسطينية لخليل وطارق أمام مكتب خليل وأما البناية التي يسكن فيها طارق وفى المطاعم ومحلات " الفليبر " وفى الشارع .

تناول صورة تجمع بين الاثنين وعرضها على الشباب قائلاً :

- هل تستطيعون حفظ وجهيهما جيداً ؟

فقال رائد وهو يتمعن الصورة :

- ولو يا أبو محمد ! هذه شغلتنا .

وضع أبو محمد إصبعه على وجه خليل وهو يقول :

- هذا ... هذا هو المطلوب الآخر لا تمسوه , حسين سيخبركم بالتوقيت والطريقة . ابر أهيم هو المنفذ وأنتما للتغطية والتمويه .

اصطحب الضابط حسين الثلاثة لمراقبة طارق وخليل . وبينما هم جالسون في مقهى " استرا ند " أطل خليل ومعه طارق . فقال حسين : " ذاك الذي على اليمين بالزي العسكري " . ولم يفاجأ الفريق بأن خليل عسكري في

" الصاعقة " . ربما فوجئوا في داخلهم ولكنهم تعودوا عدم طرح الأسئلة إذا ما صدرته إليهم الأوامر . انهم من أمهر القناصة , وكم تدربوا على إصابة عيدان الكبريت عن بعد وأحياناً بأعين معصوبة , فالمسدسات رفيقهم الأكثر إخلاصا الذي يقوم وينام معهم ,. أيديهم ترتاح حول مقابضها حتى أنك تراهم وأيديهم خالية من المسدس لكنها تبدو منحية ومضمومة بشكل كأنها لا تزال تحضنه , السؤال الوحيد الذي طرحه إبراهيم على حسين كان يتكون من كلمة واحدة فقط : " متى ؟ " ورد حسين : " الليلة " فقال رائد : " إذن لم يبق له في الحياة سوى ساعات قليلة " .

لحظة الانتقام

في تلك الليلة كان خليل ينتظر زوجته أما مكتبه ومع طارق للذهاب الى مطعم " نصر " على الروشة لتناول العشاء هناك .

وفجأة لمح طارق بعض المسلحين قائلاً :

- انظر . انهم يهربون من المحل ؟

فقال خليل :

- انهم لصوص .

وبسرعة مد يده إلى مسدسه لكن طارق قال له :

- دعك منهم .

ولم يكد طارق ينهى كلمته حتى كان أحد المسلحين يصوب مسدسه نحو خليل حيث , ألق في لمح البصر رصاصتين اخترقت الأولى رأسه والثانية رقبته قبل أن يقع على الأرض . اندفع بعدها المسلحان داخل سيارة كانت تنتظرهما على مقربة لتطير بهما كالريح .

ذهل طارق من السرعة التي تم بها كل شئ ومن الطريقة التي قتل فيها صاحبه لأن لصاً رآه يمد يده إلي مسدسه . خرجت عناصر أمن " الصاعقة " من المكتب على صوت الرصاص ليجدوا خليل مضرجاً بالدم , وبسرعة حملوه في إحدى السيارات إلى المستشفى ولكنه فارق الحياة قبل أن يوضع على النقالة . بعد نصف ساعة على الحادث وصل فريق تحقيق من أمن " الصاعقة " استمع إلى أقوال طارق بعد أن حاصرت مجموعة من المسلحين المنطقي على الفور , دون أن يهتدوا إلى شئ لكنهم توصلوا إلى أن خليل قتل بالصدفة وذهب ضحية لصوص مسلحين .

وفى اليوم التالي أذيع خبر مقتل ضابط " الصاعقة " في حادث لصوصية ,فطارق نفسه الذي كان شاهد عيان على الحادث الذي وقع أمام عينيه ولم يشك لحظة في أن الحادث عرضي وقع بالصدفة لسوء حظ خليل وأن المنفذون لصوص محترفون , بينما كان أبو محمد في اليوم التالي يشكر الرفاق الذين نفذوا العملية بدقة متناهية ويوكل تنفيذ المرحلة الثانية من العملية إلى فريق آخر بقيادة الضابط حسين .

كان طارق يتهيأ للنوم في شقته حين قرع جرس الباب . لما فتحه وجد أمامه شخصاً طلب إليه بكل تهذيب أن يحرك سيارته المتوقفة أمام البناية متراً واحداً ليتسنى له توقيف سيارته هو الآخر . فسيارة طارق كانت تحتل مكان سيارتين فقال للطارق :

- لحظة واحدة .

انتظر الرجل على الباب حين انتعل حذاءه ونزل معه على الدرج وقبل أن يصل إلى بهو العمارة بلحظات قال له حسين ويده شفى جيبه .

- أسمعني جيداً . نريدك أن تذهب معنا بلا ضجيج ولا صراخ وإلا ستموت هنا على هذه الدرجات .

ذهل طارق وظن أن الرجل يمزح معه لكنه حين نظر وراءه رأى شخصاً لآخر يحمل في يده مسدساً . وعند زاوية المدخل رأى رجل لآخر يصوب إليه مع مسدسه نظرات نارية , حاول أن يصرخ لكن الصرخة تجمدت في حنجرته التي تحشرجت فأدرك أنه وقع ولا نجاة , والأفضل أن يذهب معهم بكل هدوء . أمام باب السيارة قال لهم , " هل أستطيع تغيير ملابسي؟ ولم يجبه أحد . فقد دفعه كريم في المقعد الخلفي لتنطلق السيارة بالجميع إلي مقر مكافحة التجسس , ليبدأ التحقيق مع طارق .

طارق في الفخ

استمر التحقيق مع طارق ثلاثة أيام كاملة بلياليها تمنى خلالها ألف مرة لو أنه قتل مع النقيب خليل . فقد وجد أن المخابرات الفلسطينية تحتفظ له بملف كامل فيه كل شئ عن حياته وأعماله . وحين أدخلوه على أبو محمد , دخل منكس الرأس ذليلاً يتمنى في قرارة نفسه لو أن الأرض تنشق تحت قدميه وتبلعه حياً , فقد كان الموت أهون عليه من هذا العرى الذليل , وهو الذي كان يظن أن الناس تنظر إليه نظرتها إلى شباب وطني قومي يعمل لصالح المقاومة الفلسطينية . خفض عينيه بانكسار مهين حين التقتا بعيني أبو محمد الجالس خلف مكتبه . طال الصمت وهو يتمزق قبل أن يشير إليه أبو محمد بالجلوس . فجلس وأبو محمد يسأله .

- ألم تفكر يوماً بهذا الموقف ؟

- لقد أجبروني وابتزوني . لست خائناً .. أقسم لك .

قاطعه أبو محمد بحسم :

- اخرس . ألا تعرف كم قتل من الأبرياء بسبب خيانتك ؟ وزهير محسن هل نسيته ؟

- لقد خوفوني .

- هل يساوى خوفك كل هذا الدم الذي نزف من أهلنا وأهلك في لبنان ؟ أليس هذا شعبك الذي تقصفه الطائرات الإسرائيلية بناء على خيانتك وخيانة

خليل ؟

- خليل هو الذي وضع الخرائط .

- اخرس , الست أنت أساس البلاء يا حيوان ؟ صحيح أنك ميت الضمير , لكن إذا كان ضميرك وشرفك قد ماتا ولم يبق فيك غير الخوف , فهل تعتقد أنك بعيد عنا ؟ هل تظن أن يد " الموساد " أطول من يدنا ؟ كان باستطاعتنا قتلك مع خليل , ولكن قررنا أن نبقى على حياتك , بحثاً عن ذرة قد تكون بقيت حية من ضميرك الميت .

فكر طارق : " إذن موت خليل لم يكن صدفة , ولا اللصوص كانوا لصوصاً . العملية كلها مدبرة . يا إلهي . كان يجب على أن أدرك ذلك " .

نشله صوت أبو محمد من تفكيره وهو يقول له :

- لقد قررنا أن نعطيك حق تقرير مصيرك . فلك وحدك القرار في أن تموت شر ميتة أو تحيا .

أمسك طارق بآخر كلمات أبو محمد بلهفة قائلاً :

- أنا تحت أمرك . اطلب منى ما تشاء .

- نريدك أن تواصل العمل مع " الموساد " .

ذهل طارق وظن أنهم يريدون تصفيته بالجرم المشهود . فقال :

- لم أفهم قصدك .

فقال أبو محمد بهدوء حازم .

- نريدك أن تبقى على اتصالاتك المنتظمة معهم ولكن بتوجيهاتنا نحن . هل تفهم ؟

- فهمت .

- لا أعتقد أنني بحاجة لاقناعك بعدم الخيانة . فإياك أن تلعب معنا . لأنك عندئذ لن تستطيع الانتحار ولم تعرف غير الألم الدائم . لأننا لا نقتلك برصاصة قيمتها 25 سنتاً أمريكياً .

فابتسم أبو محمد لأول مرة في الجلسة . هو الذي دأب على مقارعة

" الموساد " سنوات طويلة . لكن بالرغم من ذلك فقد أحس طارق في ابتسامة أبو محمد شئ من الدفء وارتاحت أعصابه حين قال له أبو محمد :

- لا تخشى شيئاً . فنحن نعرفهم جيداً ونعرف طريقة تفكيرهم وتصرفاتهم وامتحاناتهم التي سنجعلك تنجح فيها بتفوق . والرائد حسين سيكون المسؤول عنك وعن تدريبك واعطائك المعلومات .

بدأت جلسات إعادة التأهيل مع حسين الذي جعله يضع أيام الاعتقال الثلاثة في قاع الذاكرة دون أن ينساها تمتماً . وأفهمه بأن لا يخبرهم عن مقتل خليل بواسطة الجهاز . إن من الضروري أن يسافر إلى أوروبا وأن يتصل بهم هناك . لأنه سيأخذونه إلى تل أبيب وأفهمه أن لا يخبرهم بأي شئ عن اعتقاله لأنهم لا يعلمون أي شئ عنه . فموعد الاتصال بهم غداً وسيكون وقتها في البيت . " وغداّ سنزودك بكل المعلومات الضرورية لتقولها لهم عند التقائك بهم في أوروبا " .

الفصل التاسع

نهاية الضابط زكى

بعد إعادة تأهيله وتدريبه على كل الاحتمالات أحضر طارق أمام " أبو محمد" من جديد , الذي قال له :

- ستسافر غداً وتتصل بهم كالعادة . ستجدهم هذه المرة متحفظين تجاهك بعض الشيء . وقد يستجوبونك من جديد . ويسبرون أغوارك بعد مقتل خليل . يريدون أن يتأكدوا من أنك ما زلت معهم ! قد يعرضونك على جهاز كشف الكذب , ولا شك أن الأخ حسين قد حفظك الدور تماماً , فقد أعد مع نفسك القصة والأجوبة حتى تحفظها عن ظهر قلب . جهاز كشف الكذب يكشف كسر الروتين والنبري وضغط الدم والانفعال في صوتك لا أكثر ولا أقل . ولا تتفاجأ أمام أي سؤال. وكن طبيعياً حسين طرح عليك كل الأسئلة التي يمكنهم أن يسألونك عنها , وقد حفظت أنت الأسئلة جيداً كما حفظت إجاباتها , وأنت يا طارق , الآن أمام الخيار الأكثر أهمية في حياتك . نحن لن نغنيك بالأموال . ولا نعدك بدولارات لا عد لها ولا حصر . فكل ما نعدك به أنك ستكون مرتاح الضمير أمام نفسك وأهلك ناسك . لقد عدت إلى نفسك وأهلك من نفق الخيانة التي لا يرضى بها الله ولا الإنسان . نحن ثقتنا كبيرة في الإنسان العربي ولقد أتحنا لك فرصة التفكير عن عملك السيئ بخدمة بلدك وجذورك . فلا تفوت الفرصة . فلتكن توبة نصوحة لله والوطن .

سكت " أبو محمد " وهو يتفرس وجه طارق الذي كان يصغي بكل جوارحه , وما أن هذا صوت " أبو محمد " حتى رفع طارق رأسه ليقول :

- لا تخف يا " أبو محمد " والله لو قلعوا عيني فلن أفرط في شيء ولن أخون.

- صيت " الموساد " اكبر منه انهم يصورونه كأسطورة بالرغم من أنه جهاز مخابرات عادى . لكن الذي يفيد " الموساد " أن اليهود في إسرائيل وفى دول العالم الأخرى متماسكون ويعملون يداً واحدة من أجل إسرائيل . بعكسنا نحن الذين نمشى وسط الألغام العربية التي زرعت بين أيدينا قبل أن تزرع بأيدي غيرنا .

امتدت الجلسة مع " أبو محمد " أكثر من ساعة أدرك خلالها رجل الرصد الفلسطيني أن طارق صادق معه . لكنه كان متخوفاً من عدم نجاحه في امتحان " الموساد " , فقال له : قبل أن يصافحه مودعاً :

- أتمنى لك سفراً سعيدا ً ورحلة موفقة , ولا تنس أن إرادة الإنسان أكبر من " الموساد " ومن كل المخابرات العالمية , فكن واثقاً من نفسك ولا تتردد أو تنزلق وستجد الأمر أكثر سهولة مما تتصور . الأمر الذي سيجعلك بطلاً لا في عيوننا نحن فحسب بل في عينك أنت , إن استطعت أن تتغلب على

" الموساد " .

كان طارق قد بدأ يسترد ثقته فتحول من إنسان ساقط إلى إنسان ذي قيمة فتحولت حتى طريقة كلامه وكلماته إذ قال " لأبو محمد " :

- توكل على الله . وستجدني عند حسن الظن والثقة . وكم أتمنى في هذه اللحظة لو أنكم كشفتم أمري مبكراً .

ابتسم " أبو محمد " وهو يقول :

- لكل أجل كتاب ولكل شيء أوان . وما يدريك أن كشفنا لك الآن خير من كشفنا لك مبكراً أو متأخراً ؟ من هنا سنبدأ , وان شاء الله ستكون بداية أخرى . أتمنى لك التوفيق ومع السلامة .

تصافحا وخرج طارق ومعه حسين يرافقه إلى الباب .

في اليوم التالي سافر طارق إلى ايطاليا, واتصل كالعادة بالسفارة الإسرائيلية وترك خبراً للمشرف عليه ( الكونترول ) , أي ضابط

" الموساد " زكى الذي هرع في اليوم التالي إلى روما . ولما التقيا في السفارة عانقه زكى مهنئاً إياه على سلامته ومرحباً :

- لقد خفت عليك كثيراً . فقد كنت دائما مع خليل – الله يرحمه .

لقد كشفوه .

فوجئ طارق بأنهم يعرفون بمقتل خليل أولاً , رغم أن خبر موته أذيع . كما فوجئ بكلمة " كشفوه " يتفوه بها زكى . تماماً كما أخبره حسين من قبل . فقال لزكى بدهشة وتساؤل :

- كشفوه ؟ ! من الذي كشفه ؟

فقال زكى وهو يبتسم :

- ولو ! سلامة فهمك يا طارق . الفلسطينيون طبعاً .

بدأ طارق عصبياً تناول سيجارة وأشعلها بحدة , كل شئ يتسم حسبما أخبره حسين . نفث دخان سيجارته بتلعثم ثم قال :

- غريب ! لقد رأيت الحادثة بعيني . لقد قتله اللصوص . على أية حال , اسمع يا زكى , أنا خائف ولا أريد أن أستمر . أرجو أن تبحث عن طريقة تخلصني بها من الجهاز . فاليوم خليل وغداً أنا .

كان يراقب وجه زكى وهو يتحدث بعصبية , وشعر أنه سجل نقطة كبيرة لصالحه , فقد لمح علامات التخوف على وجه زكى الذي قال مهدئاً :

- لا تخف , نحن معك , أروى قصة مقتل خليل بالتفصيل . فرواها له بكل حذافيرها وكما أعادها وراجعها مع حسين عشرات المرات . وفى نهاية اللقاء ربت زكى على كتف طارق قائلاً :

- ولا يهمك . احزم حقيبتك وحضر نفسك فسنسافر الليلة إلى تل أبيب .

أطفأ طارق سيجارته وصافح زكى على أن يلتقيا مساء في المطار .

وفى الطريق إلى الفندق , كاد طارق يطير من الفرح . فقد حصل على كل شئ تماماً كما أخبره حسين . حتى أن شكاً خامره بأن حسين رتب كل شئ مع زكى , لكنه قرر أن يلعب الورقة الفلسطينية إلى النهاية مهما كانت النتائج . فقد أخبره حسين أثناء الجلسات بأنه يضطر للتفكير كإسرائيلي في الكثير من الحالات وكضابط " موساد " بالتحديد . فهو يعرف أساليبهم جيداً كما أنه يبحث كل الاحتمالات ويستكشف " السيناريوهات " , ويضع كل الأسئلة التي تخطر وقد لا تخطر على البال مع اهتمام بالغ بالتفاصيل والتوافه الصغيرة . إذ كثيراً ما تكون هذه التوافه هي المقتل . فبعد أن طاف معه حسين كل الأجواء والآفاق قال له أن هذا هو " السيناريو " المحتمل للقائك مع ضابط " الموساد " . وفعلاً , حتى خروجه من السفارة الإسرائيلية لم يتفوه زكى بكلمة واحدة لم يقلها حسين . ضخ فيه هذا الشعور بمقدرة حسين وضابط المخابرات الفلسطينية ثقة هائلة , قرر أن يتفوق على زكى الذي أذله وأهانه , بل على كل " الموساد " . سيمرغ أنوفهم في التراب , وليحضروا كل أجهزة الكذب والتكنولوجيا الحديثة , فسوف لن يصلوا معه إلى أية نتيجة , بل إن نهاية زكى في " الموساد " ستكون على يديه هو , منتقماً لشرفه الذي داس عليه هذا الصهيوني

اللعين .

لمعت عينا طارق بالشرر ,فحث الخطى إلى الفندق . حزم حقائبه وطلب بعض الشراب في غرفته ثم نزل إلى صالة الاستقبال حيث دفع الحساب وغادر الفندق إلى المطار بعد أن وضع أعصابه في ثلاجة رغم شعوره الطافح بأن رحلته هذه إلي إسرائيل مختلفة عن رحلتيه السابقتين . إنها رحلة المصير التي ستقرر خياره الأبدي : فأما أن يموت ويقتلوه وأما أن يكون بطلاً قومياً .

امتحان صعب

في مطار تل أبيب . كانت السيارة الخاصة في انتظارهما عند سلم الطيارة. دلفا إليها فانطلقت بهما إلى شمال تل أبيب لتتوقف أمام إحدى البنايات النظيفة . ثم نزلا في شقة البناية مكونة من غرفة نوم واحدة وغرفة استقبال ينتشر في جوانبها ذوق أنثوي وملابس أنثوية وأدوات مكياج . تركه زكى ينام في غرفة النوم بعد العشاء , في حين نام ضابط " الموساد " في غرفة الاستقبال .

في الصباح .جاء شاب يحمل حقيبة ضخمة فقال زكى لطارق :نحن كضباط , نخضع كل عام لامتحان روتيني . وبما أنك أصبحت واحد منا وان ما يجرى لنا سيجرى لك . هذه الآلة التي تراها أمامك تسمى

" جهاز الكذب " .

ولا شك أنك سمعت بهذا الاسم من قبل . نحن على أية حال , لكثرة ما عرضنا على هذا الجهاز , صرنا نسميه " جهاز الصدق " .

كان طارق يومئ لزكى وعلى وجهه علامات الدهشة . فابتسم الخبير وهو يتقدم من طارق ليربط الأسلاك بيديه ورجليه وصدره . ثم بدأ زكى يوجه إليه الأسئلة :

- ما اسمك ؟

فرد طارق :

- طارق ....

- اسمك طارق عيتانى . أليس كذلك ؟

ورد طارق اسمي طارق الحمدان .

- كم عمرك ؟ 27 سنة .

قل لي يا طارق : كيف قتل ضابط " الصاعقة " خليل ؟

وروى طارق القصة كما سبق له ورواها لزكى فى روما .

وعاد زكى يسأل :

- بعد عودتك من المستشفى , هل تحدثت عن علاقتك بنا ؟

وأجاب طارق :

لا .

- هل أخفيت عنا أية معلومات عن مقتل خليل ؟

لا .

- بعد الجنازة هل تحدثت عن علاقتنا ؟

لا .

- من تذكر من الذين حضروا الجنازة ؟

فذكر له طارق كل الأسماء التي عرفها .

في اليوم التالي عرض طارق مرة أخرى على الجهاز وقال له زكى :

" هذه المرة نريدك أن تكذب على الجهاز " .

إذا تريدني أن أكذب ؟

- لا تخف انه روتين .خذ هذه الورقة واكتب عليها الأرقام من واحد الى عشرة . تناول طارق الورقة وكتب عليها كما طلب منه , فقال له زكى بعد أن تم ربط الأسلاك .

اقرأ هذه الأرقام بصوت عال .

لما قرأها قال له زكى :

- والآن , اقرأها . لكن حين تصل إلي رقم 5 قل تسعة بدلاً من خمسة , وأكمل ففعل .

هناك قال زكى لطارق : " انظر " . فوجد أن إبرة الجهاز قد تركت خطاً طويلاً في الرسم البياني على الورقة بعد أن نطق برقم تسعة بدلا من خمسة . فابتسم وهو يقول:

- علم .

وتكررت العملية مرة أخرى في اليوم الثالث وطارق يروى قصة مقتل خليل في كل مرة كما رواها أول مرة .

كان طارق يشعر بخوف حقيقي من " الموساد " لكن زيارته السابقة وتعامله معهم . وكلام " أبو محمد " وصحوة ضميره وحقده على زكى و" الموساد " في قصة الصور , والابتزاز والتهديد , وأهم من ذلك مقتل خليل أمام عينيه – كما أراد " أبو محمد " – جعلته يقرر بلا تردد الانحياز إلى الخندق الفلسطيني متغلباً على كل خوف من " الموساد " .

بعد انتهاء الكشف في اليوم الثالث حمل الخبير جهازه والرسوم البيانية وهو يقول لطارق مودعاً :

- أهلاً بك في تل أبيب . وان شاء الله سنراك كثيراً في المستقبل .

فقال طارق :

مرة واحدة في العام .

وابتسم وهو يلتفت إلى زكى الذي قال له الخبير :

- بإمكانك أن تأخذ المعلومات من الكمبيوتر .

فأومأ إليه زكى برأسه ونهض وهو يقول لطارق :

- هيا بنا . سأعود إلى الغداء في أحد مطاعم تل أبيب الجميلة .

في المطعم , جلس زكى وطارق على مائدة منعزلة . وما هي إلا دقائق حتى جاء رجل خمسيني شاركهما الجلسة فقدمه زكى إلى طارق بقوله :

- هذا دانى يا طارق . انه رئيسي في العمل .

صافحه طارق بأدب واحترام قائلاً :

- أهلاً وسهلاً . تشرفنا .

ومضى الحديث حول الطعام وتشابهه مع الطعام اللبناني .

ثم فجأة قال دانى موجهاً حديثه إلى طارق :

- قل هل سمعت باللواء ( كذا ) ؟

- لا . لم أسمع به .

- انه ضابط ( في جيش دولة عربية ) كبير .

- ....

- لقد أحاله رئيس الدولة على التقاعد , وهو الآن في حالة مالية حرجة بعد أن كان يصول ويجول . كما أنه حاقد على الحكم وعلى الرئيس . ونحن نريد هذا اللواء ليعمل معنا . وعليك أن تتصل به .

كيف ؟

- سيخبرك زكى بالتفاصيل .

قال دانى ذلك ثم نهض وصافح الاثنين وخرج .

بعد انصراف دانى قال زكى لطارق :

- كيف وجدت رئيسي .

ضابط .

- انك لا تعرفه . سوف أحدثك عنه في المستقبل . انه قبضاى ويعرف الجنوب اللبناني شبراً شبراً .

مهمة جديدة

في صباح اليوم التالي طلب زكى من طارق , بعد أن زوده بتذاكر السفر و 1000 دولار , أن يبقى علاقاته الوثيقة مع التنظيمات الفلسطينية , وأن ينقل إلى الجهاز كل المعلومات التي تتوفر لديه . بشأن اللواء المتقاعد , طلب منه أن يقوم بزيارته في بيته في العاصمة العربية , ويعرض عليه العمل في تجارة الأقمشة والبدلات , وأن يصطحبه في ما بعد إلى أوروبا بأية وسيلة مقنعة .

كانت حقائب طارق جاهزة , فأوصله زكى وسامي إلى المطار في طريقه إلى بيروت . لكن طارق لم يشعر بالراحة الكاملة إلا بعد أن هبط في مطار بيروت وتوجه على الفور إلى مكتب الضابط حسين حيث بادره بالقول :

- كدت اشك فيك .

فابتسم حسين وهو يقول :

- خير

- خير . فقد حصل كل شئ كما قلت لي بالحرف الواحد . وأخذوني إلى تل أبيب وعرضوني على جهاز كشف الكذب وطرحوا على الأسئلة كلها التي سألناها معاً واجبنا عليها معاً عشرات المرات .

تعددت لقاءات حسين بطارق , وفى كل مرة كان حسين يقود إلي الحديث عن زكى ولقائه مع طارق في روما وتل أبيب , فيما طارق يروى القصة بكل تفاصيلها مرة بعد مرة منذ وصل زكى إلى روما .

كانت المخابرات الفلسطينية قد أوفدت بعض عناصرها إلى روما خفية عن طارق , حيث التقطت صوراً لزكى واقتفت آثار طارق في العاصمة الإيطالية منذ لحظة وصوله إلي حين مغادرته إلى تل أبيب , كذلك قامت فرقة المكافحة بتسجيل كل ما نطق به طارق بعد عودته إلى حسين . وكان حسين يراجع التسجيلات ويحللها كلمة كلمة .

وفى لقائه مع " أبو محمد " قال حسين :

- إنني مطمئن إلى أن طارق صادق معنا , وانه مستعد للعمل والتضحية . لكن يبقى مأزق " اللواء العربي " . ماذا نفعل به ؟

فقال " أبو محمد " :

- مستحيل أن نقوم بتجنيده لصالح " الموساد " وإذا نحن أفهمناه بالحقيقة فهو قد يخاف على مستويين : مستوى تعامله مع العدو , ومستوى تعامله معنا في حال انكشافه لدى مخابرات العدو , كذلك فنحن أيضاً بغنى عن افتعال مشاكل مع دولته الأفضل البحث عن طريقة نتفادى بها هذا العمل .

- معك حق . ولكن كيف ؟

- ليسافر طارق إلي العاصمة العربية , وليتم تعريفه ببيت اللواء المذكور عن بعد . ومن الضروري أن يعرف شكل الرجل وصورته , ثم نتصرف .

وفعلاً , سافر طارق إلى العاصمة العربية المعينة , وشاهد بيت اللواء كما رآه عن قرب في أحد المقاهي . وبعد عودته إلى بيروت عرضت عليه أيضاً صورة اللواء قبل أن يقوم بإرسال البرقية التالية : " سافرت إلى العاصمة العربية , وقابلت اللواء عن طريق أحد معارفه . الرجل صعب . فاتحته بإمكانية الاشتراك معي في التجارة فسألني لماذا اخترته هو , ولماذا أعرض عليه العمل وكيف سيشاركني بدون رأس مال . لقد خفت منه وهو ليس مأموناً . إنني خائف جداً وأشعر أنني مراقب " .

وجاءه الرد : " لا تخف . لا يوجد خطر عليك . انس مسألة اللواء في الوقت الحاضر وركز على عملك المعتاد مع التنظيمات " .

بدأت مرحلة جديدة من التجسس والتجسس المضاد , أديرت بحنكة وذكاء من الجانب الفلسطيني حيث كانت المخابرات الفلسطينية هي التي تقوم بالرد على أسئلة " الموساد " والطلبات التي يتلقاها طارق منهم . وكان في إجابات المخابرات الفلسطينية أكثر من الحقائق والكثير من الأكاذيب . لكن الحقائق كانت من النوع غير المؤثر أو من النوع المتغير بحيث يصار إلى تغييرها فور إرسالها على الجهاز .

كان أكثر ما يهم المخابرات الفلسطينية أن تتعرف على حاجات " الموساد " وأن تلغم هذه الحاجات بالمعلومات التي تريدها هي لتدفع " الموساد " في طريق البناء المتهافت على غير أساس , كما كانت تتعرف على نوايا العدو وأهدافه من خلال أسئلته وطلباته . ومن الطبيعي أن تكون للمخابرات الفلسطينية مواردها ومصادرها وقنواتها الأخرى في جمع المعلومات التي تهمها , وفى إرسال المعلومات التي تريد إيصالها إلى إسرائيل مع الحرص على أن تؤكد كل القنوات الإسرائيلية المعلومات التي ترسلها المخابرات الفلسطينية إليها .

ولدى سؤال " أبو محمد " عن مصير ضابط " الموساد " زكى قال :

لقد وجدته العاصمة البريطانية مقتولاً في شقته في لندن .

- كيف وجدته وكيف قتل ؟

- تلك قصة أخرى .

- وطارق ؟

- ( .... ) .

ملاحظة

ارتأينا التوقف بالقصة عند هذا الحد لأن معظم أبطالها مازالوا أحياء , وبعض فصولها لم توضع لها النهاية , رغم أنها جرت في الفترة السابقة على الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وخلاله , إذ تكبدت إسرائيل في هذا الغزو من الخسائر المعنوية والمادية , في الداخل والخارج , وفى سمعة جيشها الذي كانت تصوره أجهزة الإعلام العالمية بأنه لا يقهر , أكثر من خسائرها البشرية بكثير , وقد كان دور المخابرات الفلسطينية ملحوظاً في الأداء البارز للمقاومة لكن السيطرة الكلية للطيران الإسرائيلي على أجواء لبنان حسمت المعركة في النهاية لصالح إسرائيل .

التعليقات