حرب الشائعات الامريكية في العراق

الحرب النفسية والانقلابات الاستراتيجية الأميركية:
تعتمد الولايات المتحدة على السيكولوجيا في سياساتها وتوظفها لخدمتها بشكل غير مسبوق. فالمخابرات الاميركية تعتمد عليها في انتقاء عملائها وتجنيد جواسيسها وتحليل معلوماتها وإعداد تقاريرها وإستشاراتها للمسؤولين الأميركيين. ويزداد الإعتماد الأميركي على السيكولوجيا في الحالات المأزمية مثل التحولات الإستراتيجية الهامة ومثل الحروب. حيث تصبح للحرب النفسية وظيفة صراعية منافسة للحرب العسكرية. لذلك فإن التعرف على التحولات الإستراتيجية العميقة لإدارة بوش يصبح ضرورياً لفهم سيكولوجية السياسة الأميركية الراهنة. كما لفهم ظواهر الحرب النفسية الأميركية في صراع الإدارة الراهنة العالمي. التي تمكنت من إستعداء العالم بمن فيهم الأصدقاء المزمنين للولايات المتحدة. وهذا يستدعي رصد الإنقلابات الاستراتيجية لادارة بوش وتحليلها مع ربطها بتصور شمولي جامع يوضح صورة الهياج العسكري الأميركي الراهن ويكشف عن دوافعه وخلفياته. يدخل في ذلك التحليل النفسي لشخصية بوش وأعضاء فريقه وبخاصة البارزين من بينهم.
قراءة إسترجاعية لسلوك ادارة ووكر بوش

كانت إنتقادات الجمهوريين لكلينتون وإتهامهم له بالتسبب في فوضى استراتيجية كافيين كي يتوقع المتابعون عزم الجمهوريين على إحداث تغييرات عديدة في التوجهات العامة للسياسة الأميركية. بل أن المراقب لمح معالم هذه التغييرات. إذ قدم الجمهوريون مشروعهم للخفض الضريبي أيام كلينتون. ثم سحبوه رغم تمتعهم بالأكثرية خشية أن يضع كلينتون الفيتو عليه. كما بدا توجه الجمهوريين نحو زيادة الإنفاق العسكري واضحاً حتى بانت علائم رغبتهم بإكمال حرب النجوم التي بدأها ريغان. لكن العلامة الأوضح كانت في إنتقادهم لمرونة كلينتون ووصفها بالميوعة التي تشجع الآخرين كي يتطاولوا على أميركا!؟. أضف الى ذلك التوجهات الجمهورية التقليدية ومن مظاهرها:
1- إعطاء دور أكبر للمخابرات ودعمهم لها.
2- العمل على الإستغناء عن موارد إقتصادية خارجية إضافية تلافياً لتقديم أية تنازلات.
3- العمل على التحرر من قيود الشراكة وتحويلها الى تفرد أميركي مقابل إغراءات متنوعة.
4- الميل للمحافظة السياسية والإجتماعية بما فيها موقف أقل مرونة من الإقليات.
وإزدادت توقعات التطرف اليميني لبوش مع إتضاح الجهات الممولة لحملته الإنتخابية إذ كانت تضم شركات السلاح والطاقة (وهي على أي حال ممولة حملة والده). وتحولت التوقعات الى التأكيد مع إعلان ووكر بوش عن إعجابه بريغان. والذي تكرس باختياره لفريق المحافظين الجدد الذين ترعرعوا أيام ريغان (الذين ركبوا موجة 11 ايلول ليحدثوا انقلابات استراتيجية اميركية حقيقية تقتضي تحليلاً دقيقاً ومتعمقاً لفهم المنطلقات الاستراتيجية الأميركية الجديدة. ذلك أن القياس على المنطلقات السابقة يفضي الى أخطاء أساسية في فهم السياسة الأميركية الراهنة. خاصة بعد دخولها في مرحلة فقدان التوجه بسبب المفاجآت المتتالية).
من جهته لم يخيب بوش أياً من هذه التوقعات. فما أن دخل الى البيت الأبيض حتى بدأ يعلن عن مشروع متطرف بل ربما في غاية التطرف. حتى ان البعض يذهب للقول بأن المعارضة العالمية المتفاوتة الحدة لادارة بوش لم تكن سوى ردود فعل على جملة إستفزازات بدأها مع تسلمه للرئاسة. ولعله من المفيد أن نذكر ببعضها ونبدأ بـ:
- الإعلان عن الرغبة في تكريس التحكم الاميركي العسكري عبر اكمال مشروع ريغان لحرب النجوم عبر ما اسماه بوش بـ: "الدرع الصاروخي". مما يشكل مخالفة لامبالية وصريحة للالتزامات والمعاهدات الاميركية الموقعة مع روسيا والاتحاد الاوروبي.
- الإنسحاب من التزامات ادارة كلينتون في المناطق الساخنة والشرق الأوسط خصوصاً. حيث أعلنت الادارة على لسان باول /نهاية شباط 2001 عن عدم رغبتها بمناقشة موضوع الانتفاضة مقابل تأكيدها النية على حل المسألة العراقية بصورة حاسمة تخدم الارادة الاميركية.
- الاصرار على سياسة الكاوبوي بإعلان النية لتصفية الأزمات المزمنة بالقوة العسكرية. وتبيان إستعداد الادارة الجديدة على استخدام القوة وعدم الاكتفاء بالتلويح بها كما الادارات السابقة.
- تكثيف الحضور العسكري والمخابراتي الأميركي في مناطق المصالح الأميركية. بما ترجم بزيادة طلعات الطائرات التجسسية فوق الصين فولد ما عرف بأزمة الطائرة الصينية. مع تكثيف تحركات الأسطول الاميركي في الشرق الأقصى فكانت أزمة سفينة الصيد اليابانية. حتى بدا واضحاً أن بوش يريد إستعادة الوجود العسكري الأميركي في المنطقة بعد أن قلصه كلينتون.
- إكمال المشاريع الجمهورية التي عارضها كلينتون وأهمها: قانون الخفض الضريبي. والوقاية من الخطر الديموغرافي للمهاجرين الملونين (فكانت حوادث سينسيناتي في 1 /4 /2001). وزيادة الإنفاق العسكري. وتفعيل دور المخابرات الاميركية ورفع القيود عنها مع إعادتها الى الواجهة الدبلوماسية (تعيين سفراء من المخابرات وتوكيل تينيت بالوساطة في الانتفاضة).
- رفض توقيع الإتفاقيات العولمية من كيوتو للبيئة ولغاية المحكمة الجنائية الدولية وبينهما ثلاثون إتفاقاً غير موقعة أيضاً. لقد بدأت الإدارة الجديدة إعلان كونها فوق القوانين الدولية والعولمية. وهو إعلان أجابت عليه الدول المؤثرة بعدم اعادة انتخاب الولايات المتحدة في اللجنة العالمية لحقوق الانسان. وكان جواباً خجولاً لكنه شكل رسالة واضحة أهملها بوش.
وسط هذا الإصرار الأميركي على التخلي عن سياسة الطلب والحصول على ما تريده بالقوة وقعت حوادث 11 ايلول. ولم تتردد الإدارة بإتهام القاعدة بهذه الحوادث بسبب جملة عوامل حيوية لمتابعة توجهات الإدارة. وأهم هذه العوامل:
1- أن ضربة أفغانستان كانت وشيكة وتهديد بن لادن بضرب الداخل الاميركي اذا ما تعرضت قاعدته للتهديد يعود الى العام 1998.
2- أن الجمهور الأميركي يتهم الشرق أوسطيين بكل الحوادث الشبيهة. وهو يقبل اتهامهم بسهولة تزيل هلع تورط جهات أكثر خطورة في هذه الحوادث.
3- أن شل القاعدة ضروري لوقاية الولايات المتحدة من مفاجآتها خلال الحروب الأميركية المقررة مسبقاً.
4- إحراج اصدقاء اميركا العرب ودفعهم نحو تسهيل حسم الملف العراقي.
5- وجود سوابق شبيهة أهمها تفجير المركز التجاري الدولي.
6- ضرورة تحديد عدو يستجلب نقمة الجمهور الأميركي ويجعل عدوانيته قابلة للتقنين والتوجيه تحت السيطرة الرسمية.
7- ادراك المسؤولين الاميركيين لمستوى التنظيم والتخطيط لهذه الحوادث بما يقطع الآمال بالحصول على أدلة قاطعة حول الفاعل الحقيقي لهذه الحوادث.
مهما يكن فإن هذه الحوادث قدمت خدمة جليلة لمشاريع المحافظين الجدد ومموليهم من الصقور الأميركيين. حتى ساد الإعتقاد بتورطهم في هذه الحوادث بسبب المكاسب التي حققوها من خلالها. وهو إعتقاد غالباً ما يرتكز الى تضارب المعلومات الرسمية الصادرة عقب الحوادث مباشرة. لكن هذا لا يعني أن هذه الحوادث لم تتسبب بأذيات كارثية على الصعيد الأميركي العام. ومن مظاهر الأذى المتفاقمة نذكر:
- فقدان الشعور بالحصانة الداخلية الأميركية. وهو المتسبب بهلع الجمهور وبخوف المستثمرين المحليين والأجانب. وهو خوف إنعكس بتنامي المشاعر الأميركية المتطرفة والعنصرية. كما انعكس بأزمة في البورصات الأميركية لا تزال ضاغطة حتى اليوم.
- إضطرار الإدارة الأميركية لرفع الغطاء عن الشركات الكبرى المتعثرة وتركها تواجه قدرها (تم لاحقاً إنقاذ الشركات التابعة لصقور الادارة عبر صفقات مشبوهة في العراق وغيره).
- إفتقاد الإدارة الأميركية لحكمة المعتدلين من أعضائها تحت ضغط هذه الحوادث التي فتحت أبواب التطرف أمام الصقور. فكانت جملة قرارات استراتيجية متهورة ومغتصبة لإرادة المعتدلين.
- فتح ملف أسود جديد هو ملف التحقيق في حوادث 11 أيلول. الذي تغلقه إدارة بوش بإحكام لأن قذارته كفيلة بالإطاحة ببوش وتفجير سلسلة فضائحه.

الإنقلابات الإستراتيجية الأميركية
لعل أهم الإنقلابات الاستراتيجية لإدارة بوش هو خروجها التام على مبدأ الإحتواء وإستبداله بمبدأ إستخدام القوة العسكرية بالصورة المباشرة. وهو ما بينته الحرب العراقية المتناقضة تماماً مع السلوك الإستراتيجي العسكري لكل الإدارات السابقة. فقد تخلت هذه الحرب عن معظم الثوابت الاستراتيجية الأميركية في الحروب. ومن هذه الثوابت المتخطاة نذكر التالية:
- إعلان الحرب بدون الحصول على موافقة مجلس الأمن الدولي.
- إعلان الحرب بالرغم من معارضة الحلف الأطلسي.
- التخلي عن مبدأ إشراك الأصدقاء وتوريطهم في الحرب.
- عدم خوض حربين متزامنتين ( الحرب الأفغانية غير منتهية اضافة الى الأزمة الكورية المهددة والمحرجة).
- إغتصاب موافقة الكونغرس بصورة مساومة على الأمن القومي.
- إستخدام أسلحة محرمة دولياً وأخرى جديدة ( الحرب القذرة).
- إحراج أصدقاء أميركا وتهديدهم ( السعودية وتركيا وفرنسا وألمانيا...).
- قبول أصدقاء جدد من الدول المارقة السابقة ( باكستان مثالاً).
- الدخول في حرب مفتوحة وغير محددة زمنياً ( تبدو قابلة للتحول الى حرب عصابات جديدة تحيي الكابوس الفيتنامي).
- الإضطرار لتقديم ضحايا بشرية أميركية (بعد إحتلال العراق).
- الصدام الحضاري الذي طالما تجنبته الإدارات السابقة.
هذه النقطة الأخيرة تشكل برأينا نقطة الضعف الأهم في الوضع الأميركي داخل العراق. حيث الجهل الأميركي بجهاز القيم العراقي مثاراً لتصعيد المقاومة العراقية. وهنا نذكر حكاية كانت مسؤولة الامم المتحدة لبرامج التنمية ترويها لكل موظفيها الجدد. وتقول الحكاية: "كان هناك قرد شجاع وذو حمية. ورأى سمكة تسبح بعكس التيار فأثارت شفقته ودبت فيه الحمية. فما كان منه إلا أن تعلق بغصن شجرة وإحتال كي يطال الماء ويخرج السمكة من الماء وهو يظن أنه ينقذها!.
وحول العبر ممكنة الإستنتاج من هذه الحكاية تقول المسؤولة: " إن الحماس والنية الحسنة والرغبة الصادقة كلها لا تكفي إذا نحن لم نأخذ في الحسبان البيئة الملائمة والمناسبة للتنمية. وهذا يعني أنه ليس بمقدورنا تعميم الحلول. فهذه قد تنجح في مجتمع وتفشل في آخر. فالحل الذب بلائم القرد لا يلائم السمكة. وما يعتبره القرد بطولة هو في الواقع جريمة بحق السمكة".
المؤسف أن نفوذ هذه المسؤولة وأمثالها محدود بحيث يعجز عن وقاية الدول النامية والفقيرة والمتعرضة للإفقار من تصرفات القرود. حيث حق المرأة في ممارسة أمومتها وتأمين فرصة الزواج لها ومن ثم في علاج طفلها وتغذيته وتلقيحه تتقدم على المطالبة بحقها في الانتخاب والترشيح مثلاً. وحيث حق الإنسان في العيش على أرضه وفي صون كرامته وحماية عائلته وتأمين حياتها ومستقبلها تتقدم على حقه في إصدار مطبوعة سياسية. وحيث حق الموت وفق المعتقد يتقدم على حق الحياة وفق النمط الأميركي...الخ من الحقوق التي تسوق لها الأمركة مهملة الحاجات الإنسانية الأساسية على طريقة الملكة ماري انطوانيت التي نصحت الفقراء بأكل البسكويت إذا لم يكن لديهم خبزاً. وحسبنا التأكيد على تطابق نصائح ووعود الأمركة مع نصائح ماري انطوانيت!. وذلك بشهادة نادي الدول المتضررة من العولمة وفي طليعتها النمور الآسيوية.
حكاية القرد والسمكة واجبة التعميم على الجهات التي تحاكم الشخصية العربية إنطلاقاً من معاييرها الخاصة. وعلى تلك العقول الأسيرة التي تتجاهل الخصوصيات العربية فتنقل النظريات والحلول دون إدراك خلفياتها وغاياتها. ويصل الأسر بهذه العقول لغاية قبول طرح مواضيع إختصاصية ذات أهداف مخابراتية بحتة. وبعضهم يقبل هذه المواضيع مع التسليم بنتائج موضوعة مسبقاً لها. فهذه العقول الأسيرة لا تدرك كنه حكاية القرد والسمكة. حيث تحتاج السمكة الى تحسين مواصفات المياه التي تعيش فيها (كي تصبح أكثر تلاؤماً مع طبيعتها) وليس لإخراجها من الماء!؟.
بناء على ما تقدم يصبح واجب الأكاديميين والمثقفين العرب البحث في مواصفات المياه الملائمة للسمكة. ولا ضير في اختلافهم حول هذه المواصفات. شرط ألا يتحول خلافهم الى المكان الذي نضع فيه السمكة بعد إخراجها من الماء!؟. أقله أن يحترم الجميع رغبة السمكة في العودة الى الماء وأن يدركوا أن هذه الرغبة هي حقها في الحياة. فعودة السمكة الى الماء هي علامة حياة (لأنها تموت خارجه) وليست دليلاً على الجنون والرغبة في الإنتحار. فهل تملك القرود الرقي الكافي لإحترام هذه الرغبة والتعامل معها ؟.
ولو نحن أردنا تلخيص الحرب النفسية الأميركية بصورتها التالية لحوادث 11 أيلول لقلنا أنها تسعى لتوظيف العقول العربية الأسيرة لخدمة مشروعها في إخراج السمكات العربيات من مياهها عن سابق تصميم على حرمان السمكة من حقوقها في هذه الحياة. وما النموذج العراقي إلا إشارة على رغبة القرد الأميركي المختلف عن بقية القرود بوعيه للأذى اللاحق بالسمكة إن هي أخرجت من الماء. فالقرد الأميركي يريد إغتيال السمكة وهو يكاد يعلن موتها مسبقاً.
الطب النفسي والحرب النفسية
تدخل الحرب النفسية في إطار الطب النفسي العسكري الذي يسخر كل تقنيات الاختصاص للخدمة العسكرية سواء في زمن الحرب او السلم. حيث تتوزع مسؤوليات الاختصاص وتتنوع باختلاف الحاجات. وتشكل ظروف الحرب ميداناً مميزاً للإختصاص إذ تتحول مسؤوليته الى الاشراف على الحرب النفسية. التي تتمحور حول وقاية الداخل من الارباك وتحصينه في وجه التجسس. كما المساعدة في عمليات التجسس المضاد وعمليات إرباك الخصم. وهي تتضمن كل وجوه النشاط الانساني والمعلوماتي. ومنها الشائعات والانباء والاعلام وتصنيع المعلومات وإعادة تصنيعها. وبالعودة الى حرب العراق يمكن الحديث عن تطويرات كبيرة في مجال الحرب النفسية. حيث عمدت المختبرات الاعلامية الاميركية والعراقية الى مراجعة وتنقيح وتطوير أدوات الحرب النفسية المستخدمة في حرب العراق الأولى ( 1991 ). حيث كان الترويع والتخويف أحد أهم الإضافات الى تلك الحرب. وهي ما يسميه المسؤولون الأميركيون بمصطلح " الصدمة والترويع". في إعتراف ضمني بقذارة هذه الحرب على المدنيين وعدم مراعاتها لقدرتهم الإنسانية على الإحتمال. وهذا التجاوز المعلن لمبدأ الحرب النظيفة (تتجنب إيذاء المدنيين وتعريضهم لضغوط التهديد العسكري بطرق غير تقليدية وبأسلحة جديدة وأخرى محرمة دولياً) ينبيء بإستعداد الولايات المتحدة لتكرار هذه القذارة وهذه المخالفات لقوانين حمايية المدنيين في حروبها المقبلة.
هذا وينظر الإختصاص الى أحداث الحرب ومخاطرها على أنها تهديدات مباشرة للحياة. وهي بالتالي صدمات نفسية تحتاج للعلاج. وهنا يجب التفريق بين صدمات المقاتلين والمدنيين. حيث يهدف علاج المقاتلين الى إعادة تأهيلهم لإعادتهم الى الجبهات. في حين يهدف علاج المدنيين الى معالجة القلق المرافق للصدمة وإعادة الإطمئنان للمصدوم. مع الإشارة الى أن الحروب القذرة لا تفرق بين المدنيين والعسكريين بحيث تكون تهديداتها متساوية للفئتين بما يناقض اتفاقيات جينيف.
الحرب النفسية في العراق نموذجاً
يستمد تحليل الحرب النفسية العراقية أهميته من جملة وقائع أهمها التالية:
- أنها مرشحة لأن تكون نموذجاً للحروب الأميركية القادمة.
- أنها أحدث الحروب وأكثرها خروجاً على مألوفات وقواعد الحروب الحديثة.
- أنها أولى الحروب المعلوماتية / الإفتراضية.
- أنها عكست فوضى غياب العدو الأميركي وإستبداله بشخص فرد.
- أنها كانت مناسبة لإعلان مبدأ بوش/ وولفويتز حول الحرب الإستباقية.
- أنها وعدت بسلسلة من الحروب الأميركية القادمة.
- أنها استخدمت أسلحة وتقنيات غير معروفة سابقاً.
- أنها تميزت بأثمان استراتيجية باهظة لدرجة العجب وطرح الأسئلة.
- أنها قامت بدون موافقة الامم المتحدة أو حلف الأطلسي وهي إغتصبت الكونغرس.
- أنها إتصبت حلفاءها وفي مقدمتهم بريطانيا.
- أنها راكمت أعداء جدد وتحدت أصدقاء وحلفاء.
- أنها لقيت معارضة عارمة من قبل الرأي العام العالمي بإعتبارها خطوة نحو الأمركة.
- أنها لا تزال تخفي أعداد ضحاياها وحجم تدميرها بما يؤكد جسامتها.
- أنها تحولت الى إحتلال يسجل نكوصاً الى مرحلة تاريخية تجاوزها الزمن.
- أنها بالغت في إعادة تصنيع المعلومات وتحويرها للصالح الأميركي.
- أنها وظفت التفوقق المعلوماتي لكسب الحرب.
- أنها حاولت إعادة الإعتبار للمخابرات ودورها بعد الفشل الكارثي في 11 أيلول.
- أنها أسست لمنهج جديد للحرب النفسية. وهي النقطة التي سنركز عليها في هذه الورقة.
البداية النفسية للحرب العراقية
في عودة الى بداية الهجوم العسكري الأميركي صبيحة 20 / 3 / 2003 لوجدنا أنها بدأت يداية نفسية خالصة. إذ إرتبطت بمعلومة مخابراتية كاذبة حول مكان تواجد القيادة العراقية. فكان إعلان الحرب مرتبطاً بمحاولة قطع الرأس (اغتيال الرئيس العراقي). وهي معلومة بررت الإستعجال الأميركي للحرب بالرغم من تردد الحلفاء ومحاولاتهم لتأجيلها. ولقد نفت المخابرات البريطانيا هذه المعلومة نفياً قاطعاً ( يعتقد أنه يبرر موقف الاذاعة البريطانية من الحرب العراقية). وبغض النظر عن حقيقة هذه المعلومة ودقتها فقد نجحت المخابرات في توظيفها نجاحاً باهراً. إذ حقق هذا التوظيف خدمات هامة ممهدة للحرب وداعمة للتعجل فيها. ومن هذه الخدمات:
- التظاهر الأميركي بمحاولة تجنب الحرب عن طريق قطع الرأس.
- إعلان تركيز العداء الاميركي على الرأس وليس على أية أهداف أخرى. وفي ذلك كسب أميركي لقطاعات واسعة من الشعب العراقي وطمأنة الشعب العراقي ككل.
- قطع الطريق على تردد بريطانيا وبقية الحلفاء (نذكر هنا بمحاولات التملص البريطانية من هذه الحرب. ومنها مشروع النقاط الست ومن ثم الدعوة لتأجيل الحرب لغاية الخريف).
- إطلاق شائعة موت الرئيس العراقي والإصرار عليها لعدة أيام. وهدفها ارباك العدو وتشجيع الفوضى الداخلية. كما امتحنت هذه الشائعة ردة فعل القيادة العراقية لدحض الشائعة ( ظهر صدام على التلفزيون).
- التمهيد لمعاودة اطلاق شائعة قطع الرأس قبل الهجوم على بغداد. لكنهم هذه المرة حرموا صدام من فرصة الظهور التلفزيوني (تدمير التلفزيون العراقي وحصار مكاتب الفضائيات العربية في بغداد).
- تشجيع المتمردين العراقيين على التحرك. أو أقله الإستعداد للتحرك.
- إظهار قدرة المخابرات الأميركية وملكيتها لمصادر معلومات شديدة القرب من القيادة العراقية ( بداية نشر شائعات الخيانة المألوفة في كل الحروب).
- الإيحاء بأن الخطة الاميركية للحرب هي غير تقليدية. وهي تنطوي على مفاجآت يمكنها أن تحسم الحرب بصور غير منتظرة.
- تشجيع ظهور بوش بمظهر راعي البقر الأميركي ( الكاوبوي ) أمام الجمهور الأميركي. فقد بدأت الحرب مع إنتهاء مهلة التهديد.
- تعويم المخابرات الاميركية وإستعادة ثقة الاميركيين فيها مع بداية هذه الحرب. وهذا التعويم يخدم هدف إغلاق ملف التحقيق في حوادث ايلول (يصر بعض الديمقراطيين على أن حرب العراق كانت في جزء منها تهرباً جمهورياً من المسؤولية في حوادث ايلول).
- طمأنة مؤيدي الحرب بإيحاء القدرة الأميركية على حسمها بصورة غير منتظرة. وبأن هذه الحرب لن تطول.
- تفشيل خطط الحرب النفسية العراقية. حيث ركز العراقيون على " معركة بغداد " في محاولة لتسخيف بداية الحرب ومراحلها الأولى. وشائعة قطع الرأس جعلت الكل يتساءل: " هل ستكون هنالك معركة ما في بغداد؟ ".
- إعطاء بعضاً من عنصر المفاجأة لحرب معلنة سلفاً عبر مهلة التهديد.
- تكريس التفوق والعظمة الأميركيين في ذهن المواطن الاميركي. حيث يملك بوش إمكانية التفكير بقطع رأس المارقين مع إستحالة العكس.
- إظهار إبتكارات وخطط وفنون حربية أميركية جديدة للحرب النظيفة.
- حشد المعارضين العراقيين الذين قاطعوا مؤتمر لندن ودفعهم للإستعجال في ركوب القطار الأميركي.
- إجبار المقاتلين العرب على التريث قبل الذهاب الى العراق. ودفع المتواجدين منهم للهرب من العراق.
- تحذير الدول المعارضة للحرب من إحتمال نهاية درامية سريعة لها.
- تشجيع معارضة الخارج على العودة للعراق لتكون سباقة لجني حصتها من النصر الأميركي المنتظر.
- دفع الأكراد للإسراع في ملء الفراغ التكتيكي المتخلف عن الخطة العسكرية العراقية في الشمال العراقي.
- إرباك الجهات التي تقدم الدعم للعراق ودفعها للتريث في دعمها له.
- تمهيد الطريق أمام شائعات الخيانة العراقية. أعلن رامسفيلد لاحقاً عن وجود خيانات داخل الصف العراقي. لغاية التصريح بمفاوضات أميركية مع ضباط كبار.
- نشر حالة الصدمة بين المدنيين العراقيين عبر الإيحاء بنهاية الحرب قبل بدئها.
- رفع معنويات الجنود الأميركيين والحلفاء.
- الإحتياط لإدانة بوش لشنه حرباً بهذا الحجم للقضاء على شخص كان يمكن الخلاص منه بدون إيقاع أعداد هائلة من الضحايا المدنيين وبدون شن حرب أصلاً. حيث وظفت هذه لبيان محاولة اميركا تجنب الحرب بإغتيال صدام.
- التأثير على معنويات القيادة العراقية وإثارة هواجس الشك عندها.
- إستيعاب المعارضة الاميركية الداخلية للحرب عبر التلميح الى الطابع المخابراتي للحرب وبالتالي الإحتياط لوقوع خسائر بشرية أميركية.
- تكذيب وإبطال المعلومات المخابراتية الروسية التي تمكنت من كشف خطة الهجوم الأساسية المتفق عليها مع بريطانيا.
وهكذا بدأت الحرب الأميركية على العراق بداية نفسية تجسدت بشائعة إغتيال القيادة العراقية. وهي حققت مجموعة الأهداف المشار لها أعلاه منذ الساعات الأولى للحرب.
شائعات الحرب العراقية
قلنا أن الحرب بدأت بشائعة مقتل صدام حسين. وهي شائعة استمرت لبضعة أيام تمكن الإعلام الأميركي خلالها من الإبقاء على غموض الخبر. ونظراً لكفاءة هذه الشائعة وفعاليتها فقد أعيد وضعها في التداول خلال الأيام الأخيرة للحرب (عقب قصف مقر اجتماع القيادة في حي المنصور). حيث كان لتكرار الشائعة فعالية مضاعفة لحدوث التكرار في ظروف القصف الأميركي المكثف والصادم لبغداد. وكذلك في ظروف معاناة العراقيين من إنخفاض التقديمات الصحية والغذائية والإسعافية.
ولعل الملفت في تفاصيل الحرب النفسية الأميركية هو ظاهرة تقاسم الأدوار. حيث كانت السي أن أن تنقل الشائعة وتنسبها الى قائد ميداني أميركي. ثم تتلقى قاعدة السيلية الخبر لتذيعه على شكل معلومات واردة من الجبهة. أما البنتاغون فيعلن بأنه سمع هذا الخبر لكنه لايملك ما يؤكده. وهكذا يتسرب الخبر/ الشائعة بدون أن تضطر القيادة الأميركية للكذب. ومهما بلغت درجة الشك في هذا الخبر فإنه يبقى مطروحاً لإنعدام إمكانية التحقق منه. وهذا الجو من الغموض هو المناخ الأكثر ملاءمة لزراعة الشائعة. وهكذا تدفقت الشائعات الأميركية على شكل سيول معلومات غامضة غير قابلة للجلاء. ومن أهم شائعات الحرب ،التي تستوجب المتابعة والتحليل، الشائعات التالية:
- الشائعات المرتبطة بتبرير الحرب على العراق / أسلحة الدمار الشامل والتحالف مع القاعدة وتهديد الأمن الأميركي والجيران الإقليميين ...الخ من المعلومات التي عجزت اميركا عن تقديم الأدلة على صحتها. (وهي شائعات واجبة التحليل والمتابعة لأنها أصبحت نمطاً مميزاً لذرائع الحروب الأميركية. حيث استعداد اميركا لخوض الحروب استناداً الى شائعات من صنع مخابراتها!؟).
- شائعة مقتل صدام (المشار لها أعلاه).
- شائعة هروب طارق عزيز (ظهر مباشرة على التلفزيون العراقي لتكذيب الشائعة).
- شائعات عديدة حول سقوط مواقع عسكرية عراقية (تبين كذبها لاحقاً).
- شائعة الإعلان الأميركي عن حرب نظيفة (كانت أقذر الحروب الأميركية. حيث يقدر حجم تدميرها بما يوازي 15 قنبلة مثيلة لقنبلة هيروشيما. مع استخدام اسلحة جديدة واخرى محرمة دولياً. إضافة لوقوع ما بين 80 و100 الف عراقي قتيلاً فيها مع 200 أل حريح ومشوه).
- شائعة الحرب الطويلة / أعلن بوش أن هذه الحرب سوف تطول. (وهي شائعة متعددة الوظائف. إذ تسمح بالتشدد مع معارضي الحرب داخل أميركا مع حرية أكبر للمخابرات الأميركية. وأيضاً إسترداد بعض ملامح عنصر المفاجأة والظهور بمظهر المرونة والرغبة في تجنب الحرب القذرة التي بدأت مباشرة بعد هذا الإعلان. إضافة الى كسب الوقت لإيجاد تسويات مع روسيا خاصة).
- شائعة تأخير الهجوم على بغداد / جاء الهجوم على المطار في اليوم التالي.
- شائعة انتظار وصول قوات اميركية اضافية.
- شائعات استسلام قوات وألوية عراقية.
- شائعة مقتل برزان التكريتي في مزرعته.
- شائعة تدمير الحرس الجمهوري.
- شائعة انقلاب مرتقب على صدام.
- شائعات الاسلحة الروسية.
- شائعات الاسلحة السورية.
- شائعة النيران الصديقة (تخفي أخطاء ناجمة عن ادمان الجنود الأميركيين وفساد قادتهم وتنافس بينهم وبين الجنود البريطانيين وهي عوامل تقتضي التحليل والدراسة).
الحرب الإفتراضية تسقط بغداد
منذ بداية التهديدات بالحرب كانت الأنظار متجهة نحو معركة فاصلة في بغداد. ولقد أسهب الإعلام الأميركي في وصف أهمية هذه المعركة وهامشية بقية المدن العراقية. حتى تسربت تقارير تشير الى عدم رغبة القيادة العسكرية بإستفزاز أهالي الجنوب العراقي. حتى كادت هذه اليادة تعلن عن عدم رغبتها الدخول الى أية مدينة أو قرية في الحنوب. وساهم الإعلام العراقي بالتسويق لمعركة بغداد وأهميتها لتسقط هذه العاصمة فجأة وبدون مقاومة. حتى أصبح سقوط بغداد على هذا النحو هو اللغز الأكبر في هذه الحرب!؟.
إن حل هذا اللغز يبدأ من جولة مراسل سي أن أن في الشوارع العراقية يوم 6 نيسان (قبل سقوط بغداد بثلاثة أيام) وملاحظته عدم وجود إستعدادات عسكرية كافية في الشوارع العراقية. وكذلك عجز المستشفيات العراقية عن استيعاب الأعداد الكبيرة للجرحى. وإضطرارها لدفن الأموات في حدائق المستشفيات. مع انقطاع الكهرباء وعدم توافر المياه. وهذه الأخبار تؤكد عجز هذه المدينة عن تحمل أية معركة وعن القيام بأية مقاومة. ( لقد لعبت السي أن أن ( CNN ) دوراً جاسوسياً خالصاً خلال هذه الحرب وإن تم طردها من بغداد بعد هذا التقرير. لذلك يجب التنبه للوظيفة الجاسوسية لهذه القناة الإعلامية!.). لكن تكشف حقائق اللغز المتمثل بسقوط بغداد ينتظر إطلاق العديد من الأسرار الخاصة بهذه الحرب. وكذلك الإجابات على قائمة طويلة من الأسئلة المطروحة حولها. فلو نحن راجعنا الشائعات الأميركية لوجدنا أنها إقتربت من نتائج الحرب بصور متفاوتة. كم أننا نجد أن هذه النتائج لم تكن بعيدة عن خطة غزو العراق التي سربتها المخابرات الاميركية تسريباً مدروساً عبر الواشنطن بوست. فإذا ما أردنا البحث عن الثغرة الرئيسية في هذه الحرب لوجدنا أنها ثغرة نفسية استخباراتية. وهي المتعلقة بردة فعل العراقيين أمام إحتلال يحررهم من نظام غير مرغوب ليضعهم في وضعية المستعمرين. فإذا ما رصدنا ردود الفعل الأولية على هذه الوضعية لرأينا أن العراقيين غير ميالين لقبول هذه الوضعية.
د. محمد احمد النابلسي / اللواء
www.mostakbaliat.com

التعليقات