جاسوسة بريطانية جمالها أسقط وزير من منصبه بقلم:د . سمير محمود قديح

جاسوسة بريطانية جمالها أسقط وزير من منصبه .

د . سمير محمود قديح

باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية


شعرها امتزج بالرمادي وفي الوجه ارتسمت معالم أربعة عقود قاسية، والفتنة الطاغية كادت تختفي كلياً، وما تبقى من ذلك الجسد الذي كان يوماً يدير أعتى الرؤوس يختفي اليوم بتواضع تحت ملابس محتشمة، وشعرها العسجدي الذي كان ينساب كالشلال لم يعد يؤثر في النفوس.

هذه هي كريستين كيلر اليوم، في الثالثة والستين من العمر، تلك المرأة التي أدى جمالها الرائع في سني المراهقة إلى أن يفقد وزير منصبه، وترنحت بسببه وزارة بريطانية اهتزت من جذورها وأوشكت على السقوط من علٍ، وكانت صورتها على مقعد وثير يبرز جمالها في بريطانيا الستينات في شعبية فناني (البيتلز) آنذاك، وأصبح اسمها مرادفاً لكلمة الفضيحة.

اليوم وفي أحد أسواق شمال لندن تروح (الفاتنة) العجوز وتجيء دون أن يتعرف أحد على الفتاة التي قلبت حياة بروفيومو وزير (الحربية)، وهي اليوم سعيدة بهذا التجاهل غير المقصود، ولقد ظلت طوال 42 سنة تكافح للتخلص من ماضيها، ولجأت لأكثر من أسلوب وطريقة فعمدت إلى تغيير اسمها وانتقلت من حياة لندن الصاخبة إلى الريف البريطاني متخذة من الضواحي مسكناً وملجأ ومهرباً، وبعكس حياة اللهو والمجون التي عايشتها أصبحت تفضل صحبة القطط على بني جنسها من البشر، تأنس لأصوات الذئاب وتهرب إلى مخدعها إن صوّت إلى جانبها إنسان.

في الستينات كانت تقطع الأميال لتحضر حفلة راقصة وتتخير الاجتماعات غير المحتشمة، وتتخذ من الجاغوار والليموزين وسيلة للوصول إلى مبتغاها وإذا صادف أن ارتدت شيئاً يُذكر فهو عادة لا يزيد على تنورة (ميني سكيرت)، أما الآن فهي تولي اهتماماً خاصاً لما تتناوله قططها وتقصد المحال الكبرى لهذا الغرض ووسيلتها المفلة الحافلات العامة، وقد تخلت (الميني سكيرت)، عن مكانها لسترة من الصوف مع (الجينز) ولكن ما الذي أعاد للأذهان ذكرى الجاسوسة كريستين كيلر بعد كل هذه السنوات؟

خلال هذا الشهر كانت أخبار الرجل النحيل ذي التسعين عاماً قد عمت الصحف بعد أن اختفى جون بروفيومو من الأضواء لعقود مضت فرض على نفسه خلالها العزلة، وظهرت صورته عند حضوره ذكرى رئيس وزراء بريطانيا السابق إدوارد هيث، وكان وزير الحربية البريطاني بروفيومو، خريج هارو وأكسفورد قد اضطر للاستقالة من حكومة هارولد ماكميلان عام 1963 بعد أن كذب على البرلمان البريطاني حول علاقته بالآنسة كيلر، وكانوا يصفونها آنذاك بالمرأة المغوية، والفاتنة عند الطلب ثم (التورتة) المحشوة بالعسل، وقال بروفيومو لأعضاء البرلمان إن علاقته بها كانت محتشمة لم (ترق) لغير ذلك، وفي الحقيقة كان الوزير قد التقى بعارضة الأزياء ذات التسعة عشر ربيعاً قبل ذلك بعامين عندما رآها تسبح في حوض سباحة خاص باللورد أستر وبدأ معها علاقة حميمة في الوقت ذاته الذي كانت تبادل فيه الحب الملحق البحري الروسي في قمة أيام الحرب الباردة، وأوشكت الفضيحة أن تعصف بحكومة المحافظين، وغيرت إلى الأبد نظرة التقديس التي كان يكنها البريطانيون لرجال السياسة، وأصبحت قصة كريستين كيلر والوزير معلماً بارزاً من معالم تلك السنة إلى جانب اغتيال الرئيس الأميركي كيندي، وجنون الشباب بأغاني (البيتلز) وسرقة القطار الكبرى.

في السياسة تعتبر الأربعة عقود طويلة وقد منح بروفيومو عام 1975 لقباً ملكياً تقديراً لخدماته الخيرية للمحرومين والمعوزين في القطاع الشرقي من العاصمة البريطانية، وفي عام 2003 بدأت حملة من كل الأحزاب البريطانية تطالب بمنح العجوز بروفيومو عضوية المجلس الاستشاري (مجلس الملكة الخاص)، وقد قام بتكريمه بعد ذلك رئيس الوزراء جون ميجور لأعماله الخيرية، وكان في الشهر الماضي ضمن 650 ضيفاً في الاحتفال ببلوغ رئيس الوزراء السابقة البارونة تاتشر الثمانين من عمرها وكان الرجل في التسعين.

صور الوزير في الحفل أعادت للأذهان من جديد اسمي كريستين كيلر وبروفيومو، ثم أضرم النار من جديد في القصة القديمة مسلسل وثائقي لقناة التليفزيون البريطاني (BBC-2) يحكي قصة الجاسوسة كيلر والوزير، وقد حدث ما حدث للوزير ولكن ماذا حدث للآنسة كيلر؟ تزوجت مرتين وأنجبت ابنين، وعملت في مصبغة لغسل وكي الملابس، وظهرت في مجلة (للرجال فقط)، واستخدمتها إحدى المدارس ولكن مديرها سرعان ما طردها حين علم بقصتها، وطبعت قبل أربع سنوات كتاباً بعنوان: (إليكم الحقيقة ـ أخيراً)، ورغم أن الذين يرونها الآن لا يربطون بين السيدة المحبة للقطط، والجاسوسة ولكنها تقول: (طوال حياتي لم أستطع أن أهرب من اسمي)، وهي ترفض الإدلاء بأحاديث صحفية عن الماضي أما المستقبل فيلخصه كتابها الجديد: (لقد بقيت على قيد الحياة ولا أرغب في أكثر من هذا)، كما تقول.

وبعد، ما هي قصتها وما الجديد الذي يمكن إضافته لما سبق أن رويناه عن الفاتنة / الجاسوسة كريستين كيلر؟

آخر ما كتب عنها في نساء الجاسوسية أنها كانت تسعى للشهرة واعتبرت أن معرفة الآخرين بها ستروج لمهنتها، الخارجة عن الزواج الشرعي، وقادتها رغبتها في الشهرة إلى التجسس.

في عام 1963 كان الدكتور ستيفن وارد طبيباً حسن السمعة في مجال تقويم العظام، وذلك في الظاهر أمام الطبقة الأرستقراطية البريطانية العليا، وكان فناناً موهوباً وقد جلس إليه رجال مشهورون ليحظوا برسم من ريشته، ولكن ما لم يعرفه زبائنه في المجالين عنه صلته المريبة بالحسناوات وتخصصه في دعوة الكبار لحفلات ماجنة، وكانت نجمة حفلاته الصاخبة الآنسة كريستين كيلر, وكان من أصدقائه وزبائنه جون بروفيومو، وكان الدكتور وارد يعمل أيضاً في خدمة المخابرات البريطانية حيث يقدم الحسناوات لرجال السلك الدبلوماسي الأجنبي ويأخذ صورهم في أوضاع مشينة تستغلها المخابرات في تجنيدهم لمصلحتها، ولم تعرف أن السحر سينقلب على الساحر.

في عام 1956 اعتنق الدكتور وارد الشيوعية مذهباً وعقيدة، وفي عام 1961 عرف الدبلوماسي الروسي إيوجين إيفانون بنجمته الراقصة كريستين كيلر، وكان إيفانون ملحقاً بحرياً بسفارة روسيا لدى لندن في ظاهر الأمر، ولكنه كان مجنداً من قبل المخابرات الروسية وهكذا التقى وتصادق الرجلان د. وارد و(إيفانون)، وكل منهما في خدمة المخابرات، وكان الروسي يصر على الدكتور وارد بأن يظهر حماسه للنظام الشيوعي الذي اعتنق مبادئه بإثبات ولائه من خلال التجسس لصالح الروسي وتجنيد حسناواته لهذا الغرض، وكان بروفيومو سيء الحظ قد وقع في حبائل كريستين كيلر فأوحى إليها (وارد) بمحاولة استدراج وزير الحرب البريطاني بروفيومو للبوح لها بسر يحاول الروس الحصول عليه، فقد كان السوفييت يرغبون في معرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية ستزود ألمانيا الغربية بقنابل نووية.

كانت المخابرات البريطانية تراقب دكتور وارد عن كثب ولكن عملاء (MI-5) لم يكونوا على علم بأن أحد وزرائهم على صلة بإحدى فتياته الحسناوات ولكنهم كانوا يعرفون بأن بروفيومو على صلة بالدكتور وارد ولهذا حذروه من صحبة الطبيب كونه على صلة بالملحق العسكري البحري الروسي وقطع الوزير صلته بالجاسوسة كريستين كيلر، ولكن بعد أن أفضى إليها بأسراره الخطيرة في لحظات غيبة عن الوعي، وكان من الممكن أن يظل الأمر سراً لولا أن كريستين كانت على صلة أيضاً بتاجر مخدرات جامايكي غيور إذ ما كادت تغيب عنه يوماً حتى هاجم منزل الدكتور وارد ظاناً أنه قد حجبها عنه، وتم إلقاء القبض عليه، وأتوا بالحسناء شاهدة، وبدأت كيلر وهي في مقعد الشهود بالمحكمة تفضفض بما سئلت عنه وما لم تسأل عنه وقالت إنها على علاقة بأربعة رجال: تاجر المخدرات، والدكتور وارد، والملحق العسكري الروسي إيفانون ثم فجرت قنبلة حين أضافت لهذه الأسماء اسم وزير الحربية البريطانية بروفيومو في عز أيام (الحرب الباردة)، وقالت نكاية في الوزير الذي أعلن قطع صلته بها قبل ذلك بأيام إنها لا تعرف كيف أن وزيراً في الحكومة يتخلى عن مسؤولياته ويعاشرها رغم أنه متزوج، ولم تكتف بذلك بل قالت إن الدكتور وارد قد أجبرها على الحصول على معلومات سرية من الوزير، وقد فعلت، وحملت شرطة إسكتلنديارد على د. وارد لتخفيف الضغط الصحفي عن الوزير، وأعلن الوزير بدوره أنه لا علاقة له بهذا الوضع المشين، ولكن أحداً لم يصدقه من زملائه في مجلس العموم البريطاني فقد فاحت الرائحة.

في الرابع من حزيران لعام 1963 قدم جون بروفيومو مضطراً استقالته من منصبه كوزير للحربية البريطانية، واعتقدت كريستين كيلر أن اعترافها بالتجسس لصالح الروسي سيزيد من شهرتها وأنها وقد لعبت دور الجاسوسة في الواقع سيتاح لها تمثيل هذا الدور في أفلام جيمس بوند (007) ولكنها حظيت بدور ثانوي ثم طواها النسيان وأصبحت اليوم في الثالثة والستين تبحث عن الحب بين مجموعة من القطط...

التعليقات