مغامرات رادوفان كرادزيتش

مغامرات رادوفان كرادزيتش
نيويورك: جاك هيت*
كانت زوجة مينا مينيتش أول من فتح الباب في ذاك اليوم من عام 2005، لتجد أمامها رجلا طويلا يسألها حول ما إذا كان ذلك منزل «الدكتور البروفسور الأكاديمي مينا مينيتش». وقدم الرجل طويل القامة إلى زوجة مينا باقة ورود وقبل يدها. وعندما أتى زوجها، مينا، إلى الباب، وجد رجلا «شديد الغرابة» قدم نفسه إليه باسم دراغان دابيتش. كان الرجل يرتدي معطفا طويلا وقبعة، وعندما رفعها، ظهرت خصلات شعر رمادية اللون تتجمع عند مقدمة رأسه. في الوقت نفسه تقريبا الذي فتح عنده مينيتش الباب، مر شخص آخر ممن يتمتعون بموهبة الاستبصار، دوسان غانيتش، بتجربة مشابهة، حيث ظهر الرجل الفارع عند بابه أحد الأيام، وقدم زهورا لزوجته. وأعرب دابيتش عن إعجابه العميق بمواهب غانيتش. بمرور الوقت، توطدت الروابط المهنية بين دابيتش وكل من مينيتش وغانيتش. وبات يقضي جزءا كبيرا من وقته بمكتب مينيتش، وهو عبارة عن غرفة متواضعة بقبو، تضم مكتبا خشبيا بسيطا. وكان دابيتش ينام في بعض الأحيان على سرير نقال موجود بالغرفة. وعندما كان أي من مينيتش أو غانيتش يطرح التساؤلات بشأن ماضي دابيتش أو شهاداته العلمية، كان يطرح إجابات غامضة. من بين ما قاله إنه عاش في نيويورك، لكن زواجه انتهى على نحو مأساوي، وبقيت زوجته وأولاده في نيويورك. وحسبما يتذكر مينيتش، احتفظ صديقه «بأربعة أو خمسة» هواتف نقالة، وكانت أجراسها ترن طيلة الوقت. وأضاف «كان يتخذ الترتيبات اللازمة دوما كي يرد اتصالات الجميع. لذلك اعتقدت أنه جاسوس». إلا أنه لم يكن جاسوسا. في الواقع، أصيب مينيتش وغانيتش (وباقي العالم) بالصدمة في يوليو (تموز) الماضي لدى اكتشاف أن صديقهما فارع القامة لا يعدو كونه رادوفان كرادزيتش، أبرز مجرمي الحرب المطلوبين لدى العدالة على وجه الأرض. جدير بالذكر أن كرادزيتش تولى السلطة مطلع التسعينات، في وقت أذعنت يوغوسلافيا إلى قوى مدمرة تتبع نهجا قوميا قويا. في أعقاب إعلان البوسنة والهرسك استقلالهما، قاد كرادزيتش الصرب داخل البوسنة لإعلان جمهوريتهم، بحيث تتحالف مع صربيا وتستقل عن البوسنة. باعتباره رئيس الجمهورية الصربية، وبمساعدة حكومة سلوبودان ميلوسوفيتش الصربية في بلغراد، شن كرادزيتش وقائده العسكري سيئ السمعة، راتكو ملاديتش، حربا وحشية ضد مسلمي البوسنة، وحاصرا سراييفو على امتداد ثلاث سنوات وارتكبا أسوأ جرائم حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. تشير الإحصاءات إلى أن قرابة 8000 بوسني مسلم في سربرنيتشا وحدها قتلوا في غضون أيام قلائل في يوليو (تموز) 1995. في يوليو (تموز) ونوفمبر (تشرين الثاني) 1995، وجهت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة اتهامات وبالتحديد إلى كرادزيتش وملاديتش باقتراف إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات لقوانين الحرب. ونجحت عقوبات دولية في إجبار ميلوسوفيتش على وقف مساعداته العسكرية إلى صرب البوسنة. بمرور الوقت، تراجعت حدة الحرب وبدأت قبضة كرادزيتش على السلطة في التراخي. عام 2000، بعد قصف قوات حلف الناتو بلغراد خلال حرب كوسوفا، أطيح بميلوسوفيتش من السلطة وألقي القبض عليه، ثم عام 2001، أرسل إلى لاهاي للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب. عام 2006، توفي قبل صدور حكم قضائي بحقه. أما كرادزيتش، وكذلك ملاديتش، فنجح في تجنب مصير ميلوسوفيتش عبر الاختفاء والهرب. في شوارع بلغراد، انتشرت شائعات بشأن وجود كرادزيتش. قال البعض إنه يعيش حياة عاصفة كبطل حرب عصابات في الجبال، بينما اعتقد آخرون أنه يعيش في المنفى في شرق أوروبا أو أميركا الجنوبية. وعليه، شعر معظم المراقبين المعنيين بمنطقة البلقان بصدمة بالغة لدى إلقاء القبض على دابيتش الصيف الماضي داخل إحدى الحافلات، حيث كان يتجول بأرجاء بلغراد كأي مواطن عادي. بحلول وقت إلقاء القبض عليه، كان راغان دابيتش قد أصبح أحد الشخصيات الشهيرة إلى حد ما داخل بلغراد، حيث كان يكتب عمودا صحافيا بإحدى المجلات الوطنية. وبدأ نجمه في الصعود داخل شركة إنتاج فيتامينات تتخذ من كونيكتيكت مقرا لها. وكان يتعاون مع طبيب شهير بمجال الأمراض التناسلية لابتكار علاج جديد لزيادة خصوبة الرجال. بعد نقل كرادزيتش إلى لاهاي يوليو (تموز) الماضي للمثول أمام القضاء لارتكابه جرائم حرب، تلوح بعض التساؤلات المعقدة في الأفق. وعليه، أجريت اتصالا عبر البريد الإلكتروني مع تيسانوفيتش، التي نالت كتاباتها المناهضة للحرب شهرة واسعة في أواخر التسعينات، ووافقت على إرشادي لخوض عالم الطب البديل في بلغراد بهدف التعرف على نمط الحياة التي عاشها كرادزيتش. بالفعل، التقيت مينيتش، الذي يتميز بمكانة رفيعة بمجال علم راديستيزيا، في أحد المطاعم المطلة على نهر الدانوب لتناول العشاء الذي تألف من مجموعة منتقاة من أنواع اللحوم. أثناء جلوسنا، تصاعدت خيوط رفيعة من الدخان من سجائر بضعة من رواد المطعم الآخرين وكذلك بعض نادلي المطعم. قبل أن يتحدث معي، أصر مينيتش على إجراء فحوصات خاصة لي كي يعرف المزيد عني. وأمسك بندولا على شكل غراب. وكانت بيده سلسلة تنتهي بصورة غراب آخر قام بتوجيهها نحوي برفق. وقال مينيتش: «أنت تحمل دماء روسية». حينئذ، أعلنت أن جدودي ينتمون، في حقيقة الأمر، في معظمهم إلى اسكتلندا. وأضاف «أنت مسؤول بارز تتولى قيادة جيوش». في الواقع، أعمل بشكل حر في أغلب الوقت منذ تخرجي في الجامعة، وبالتالي ليس هناك مجال للحديث عن جيوش. أما الكائن الوحيد الخاضع لي ويطيع أوامري فهو كلبي. ثم وضع مينيتش عدته جانبا، وعلى وجهه ابتسامة رضا. بمرور الوقت اتضح أن عالم الطب البديل يشكل ملاذا مثاليا لرجل لديه ما يخفيه. من جهته، أشار غانيتش، المتخصص بمجال التعامل مع حقول الطاقة البشرية، إلى أن دابيتش كان يسأل باستمرار عن عمل غانيتش، لكن نادرا ما كان يتحدث عن نفسه. وقال: «لم يكن يجلس ليتناول الطعام معنا قط». ويرتبط هذا بجانب آخر من التحول الذي طرأ على دابيتش، الذي يبدو واضحا من الصور، ذلك أن الإبقاء على نحافة جسده كان أحد السبل الأخرى للتخفي. وكان من شأن ذلك جعل وجهه غائرا قليلا، وتشويه مظهر عينيه. كما عقص شعره فوق رأسه، مما زاد من الشعور بطوله ولفت الأنظار بعيدا عن وجهه الذي غاب بالفعل تحت لحية كثيفة. علاوة على ذلك، عمد دابيتش إلى الحديث بلكنة أبناء بلغراد، المختلفة بوضوح عن لكنته الأصلية. في نهاية الأمر، تمكن دراغان دابيتش من تقمص شخصية وبناء ملامح وجه حجبت كافة الملامح الجسدية والشخصية والتاريخية المرتبطة برادوفان كرادزيتش. من جهته، أخبرني فيكاريتش، العامل لدى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، أنه «في الجهة المقابلة لشقة دابيتش في نيو بلغراد، عاشت سيدة كانت تعمل لحساب الإنتربول. وكل صباح، كانت السيدة تفتح الحاسب الآلي الخاص بها لتجد صورتي رادوفان كرادزيتش وأسامة بن لادن. وكانت تلقي التحية كل صباح على دراغان دابيتش». المثير أن الشك لم يساورها قط بشأن حقيقة هوية جارها. بمرور الوقت، توصل كرادزيتش إلى أسلوب علاج يتواءم مع شخصيته باعتباره دابيتش. بحلول عام 2006، كان كرادزيتش قد تقمص شخصيته الجديدة كمعالج باستخدام حقول الطاقة البشرية لفترة كافية لاطلاعه على أفرع أخرى من الطب البديل. وبدأ حضور مؤتمرات في «بالانز ميديكا»، وهو مستشفى شهير يقع بقلب بلغراد القديمة. كان مقر المستشفى عبارة عن مبنى قديم ينتمي إلى القرن التاسع عشر، شاهق الارتفاع ويتميز بأسقف رائعة المظهر. وقد قمت بزيارة غادرانكا سونيتش، مديرة المستشفى. وأكدت سونيتش أن عملاءها ليسوا من المزارعين القرويين الراغبين في التعرف على مستقبلهم، ولكنهم «موظفون». وأضافت أنهم «أناس عاملون ليس لديهم كثير من الوقت لكي يهدروه». يذكر أن «بالانز ميديكا» يستضيف العديد من المؤتمرات المعنية بمجالات الطب البديل الناشئة، وسرعان ما أصبح دابيتش أحد المشاركين بانتظام في هذه المؤتمرات. وفي وصفها له، قالت سونيتش: «في الصيف، يرتدي قبعة بيضاء وفي الشتاء، أخرى سوداء. وكان يرتدي معطفا طويلا، صيفا وشتاء، وزوجين من القفازات، أبيض وأسود. وكان يخلع قبعته دوما وينحني». واستطردت بأنه كان يتحدث دوما ببطء ولطف. في أكتوبر (تشرين الأول) 2007، أخبر غانيتش دابيتش بشأن مؤتمر كبير للمعنيين بأنماط الطب البديل والتقليدي في بلغراد تشارك في رعايته المجلة الوطنية للطب البديل، «هيلثي لايف». وهناك، وقع لقاء بين دابيتش وغوران كوجيتش، رئيس تحرير المجلة آنذاك، وهو رجل نحيل شاحب البشرة منتفخ الجبهة. وحسبما أخبرني كوجيتش، انتابه على الفور شعور بكاريزما وحماس داخل دابيتش، خاصة بعدما اقترح الأخير أن يكتب عمودا بالمجلة التي يترأسها كوجيتش. وطلب كوجيتش الاطلاع على شهاداته العلمية، لكن دابيتش سرد على مسامعه قصة واهية حول انفصاله عن زوجته الغادرة أثناء إقامتهما في نيويورك، ورفض زوجته إرسال شهادة الدبلومة الخاصة به عبر البريد. من ناحيته، لم يطل كوجيتش حديثه بهذا الشأن. وعن السبب وراء ذلك، قال كوجيتش: «من المحرج قليلا أن تطلب من شخص ما شهادة الدبلومة الخاصة به». حمل العمود الذي كتبه دابيتش اسم «تأملات»، وصدر خلال خمسة أعداد من المجلة قبل أن يتدخل محققو جرائم الحرب ويعوقوا دابيتش عن المضي قدما في مهنة الكتابة. بحلول منتصف 2007، قام صديق طبيب بتقديم دابيتش إلى مجموعة من المسؤولين بـ«كاليفيتا»، وهي شركة معنية بإنتاج الفيتامينات، مقرها كونيكتيكيت. وتعاقدت معه الشركة للعمل مندوب مبيعات لها في بلغراد. وأخبرني الكثير ممن شاهدوه أثناء عمله كمندوب مبيعات أنه تميز بمهارة كبيرة في عمله. خلال الفترة ذاتها تقريبا، أجرى دابيتش اتصالات بسافو بوغوفيتش، أحد الأطباء البارزين محليا بمجال علاج الأمراض التناسلية. ونظرا لتفوق بوغوفيتش بمجال الاختراعات والنظريات، توطدت الصلة بينه وبين دابيتش. وعلق بوغوفيتش على لقائه بدابيتش قائلا: «وضع يديه بالقرب من وجنتي، وشعرت بطاقة دافئة هائلة». وأكد بوغوفيتش أنه ما زال يؤمن بجدوى علاجه للأمراض المرتبطة بالخصوبة ولا يزال يؤمن أن المعالج الذي تعامل معه باعتباره دابيتش كان رجلا أمينا معه. وشدد بوغوفيتش على أنه «لم أشعر بأني تعرضت للخداع. إنه لم يخدعني». والواضح أن انتحال اسم دابيتش وشخصيته الجديدة برمتها لم تمثل أمرا هامشيا بالنسبة للكثيرين ممن تعاملوا معه. من جانبها، أصرت سونيتش على أنه «لم أشعر أنني تعرضت للخداع على يديه. كل شخصا ربما تكون لديه أسباب خاصة تستدعي التخفي». إلا أنهم عجزوا جميعا عن الربط بين سياسي أشرف على عمليات قتل واغتصاب جماعي والرجل الروحاني المعروف بلطف المعشر. المثير أن كوجيتش، رئيس تحرير المجلة، نوه إلى أن دابيتش تجنب الحديث عن القضايا السياسية. وأصر غانيتش على أنه «لا أعلم رادوفان كرادزيتش. ولم يعرف أي منا كرادزيتش. هناك حقيقة واحدة، صدقوني، وهي أننا لم نعرف سوى دراغان دابيتش». بالنسبة لهم، مثّل دابيتش الوجه الأكثر إنسانية وخيرا من كرادزيتش. وألمح أكثر من واحد منهم أن دابيتش هو الشخص الحقيقي، أما كرادزيتش مجرم الحرب فهو الشخصية المختلقة.

* نيويورك تايمز

التعليقات