مدينة توسعت سريعا في الاتجاهات كلها :بيوت عمان العتيقة شهادة تاريخ وركائز تراثية

مدينة توسعت سريعا في الاتجاهات كلها

بيوت عمان العتيقة شهادة تاريخ وركائز تراثية

عمان ـ دنيا الوطن ـ هشام عودة

لم تكن عمان بداية القرن الماضي سوى قرية صغيرة لا تثير الاهتمام ولا تلفت انتباه احد, الشيء الوحيد الذي ميزها في تلك الفترة, هو مجموعة من المهاجرين الشركس الذين استوطنوها , فتناثرت بيوتهم الطينية حول سيلها الذي لم يعد الان موجودا الا بالاسم فقط .

واذا كانت الدراسات التاريخية والاثارية تشير ان عمان كانت مدينة مأهولة بالسكان عبر تاريخها الا ان القرن الاخير شهد تطورا واسعا لمدينة صارت اليوم واحدة من اجمل العواصم العربية واكثرها قدرة على متابعة تطورات العصر .

كان للقرار الذي اتخذه الامير عبد الله بن الحسين مؤسس امارة شرق الاردن باعتماده عمان عاصمة للامارة الفتية اثره في تطور المدينة , ودخولها حيز الفعل السياسي والاقتصادي في المنطقة .

قاع المدينة او وسط البلد او عمان القديمة هي تسميات تطلق على مكان واحد , وتحديدا تلك المنطقة المحيطة بالجامع الحسيني الكبير الذي تم بناؤه عام 1924 على انقاض جامع عثماني , وصار هذا الجامع عين المدينة وبوصلة حركتها في الاتجاهات كافة , واخذت بيوت المدينة التي اقيمت على مقربة من هذا الجامع تنتشر تدريجيا على سفوح وقمم الجبال المجاورة .

من تأخذه قدماه للتجول في العاصمة الاردنية يستطيع ببساطة ان يتعرف على شيء من تاريخها من خلال قراءته لحياة بيوتها العتيقة التي ما تزال قائمة حتى الان , والتي كانت في يوم مضى مسرحا لاحداث مهمة وكبيرة ليس في حدود الامارة فقط , بل اتسعت احيانا لتسهم في التأثير ببعض احداث المنطقة ايضا .

بيوتات عمان العتيقة اسهمت في رسم سياسة الامارة وحددت حركة اتجاه السياسة والاقتصاد والعلاقات المختلفة لدولة تشق طريقها في منطقة تعصف بالاحداث .

ظلت عمان مدينة تتوسع بهدوء محافظة على علاقتها بالقرية من حيث الهدوء والاجواء والعلاقات الاجتماعية , حتى كانت نكسة حزيران عام 1967 لتشهد المدينة اول انفجار سكاني بهذا الحجم , بعد ان لجأ اليها مئات الالاف من الفلسطينيين القادمين من غربي النهر.

واذا كانت عمان مدينة تجدد نفسها باستمرار , فانه ما يزال في العديد من احيائها وشوارعها مجموعة من البيوت ذات البناء المعماري الخاص يعرفها العمانيون جيدا , ويعرفون اصحابها ويعرفون كذلك حجم الدور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي لعبه اصحاب هذه البيوت في النصف الاول من القرن العشرين , مقترنا بالدور نفسه الذي لعبته عمان كعاصمة ناشئة لامارة فتية تحولت الى مملكة بعد ربع قرن من تأسيسها معتمدة في جانب من تكريس حضورها على الاخبار التي كانت ترشح من داخل جدران هذه البيوت المعروفة الان باسماء عائلاتها والموزعة على احياء العاصمة القديمة .

في جبل التاج وجبل الحسين وجبل اللويبدة وجبل عمان وغيرها من المناطق والاحياء , كانت الحياة السياسية والثقافية تبدو اكثر وضوحا , وذلك لاكثر من سبب , فالعاصمة ما تزال ناشئة في طريقها للتوسع , وبالتالي فان الناس في معظمهم يعرفون بعضهم البعض, ويعرفون حجم وتأثير هذا البيت اوذاك في الحياة العمانية .

ويعود انشاء الجزء الاكبر من هذه البيوت, والذي ما يزال الكثير منها قائما, الى سنوات الثلاثينيات والاربعينيات من القرن الماضي , وهي وان بدت ضخمة البناء من الخارج الا انها لا تختلف كثيرا في السمات التي كانت شائعة في تلك الحقبة, وان كان الحجر هو السمة الاكثر بروزا في هذه البيوت , وهي سمة محببة اليوم لكل العمانيين الذين ذهبوا الى بناء بيوتهم وعماراتهم بالحجر ايضا , الى درجة ان امانة عمان الكبرى تشترط على كل من يريد ان يبني بيتا جديدا في عدد من ضواحي العاصمة ان يتم ذلك بالحجر , حفاظا على جمالية المدينة وانتماء لشيء من تراثها المعماري .

وتتميز بيوت عمان العتيقة بالسور الذي يحيط بها من كل جوانبها ونوافذها الصغيرة والمنتشرة على الجدران كلها , وبارتفاع سقفها عن المدى المتعارف عليه .

بعض كبار السن في العاصمة الاردنية ما يزالون يحتفظون بصورة تلك البيوت في اذهانهم .. فهي بيوت تستقبل يوميا ضيوفا كثيرين, وفيها من الخدم والحشم ما يضفي عليها سمات من الاختلاف عن السائد الاجتماعي, وتقف امامها سيارات مختلفة الالوان والاشكال, في الوقت الذي كانت فيه سيارات العاصمة محدودة ومعدودة .

ويضيف بعض المعاصرين لتلك الحقبة ان بيوتات العائلات الكبيرة في عمان كانت تعرف من حجم بنائها الذي تنفرد فيه في المنطقة, خاصة مع مقارنتها بغيرها من البيوت المجاورة وكانت هذه البيوت ايضا مقصدا لعامة المواطنين لمتابعة معاملة حكومية او طلب وظيفة او التوسط في اي شأن من شؤون الحياة .

وتؤكد ذاكرة العمانيين ان مثل هذه البيوت المتميزة في طريقة بنائها لم تكن حكرا على السياسيين ورجالات الدولة فقط , بل يعود بعضها للتجار ورجالات الاقتصاد ووجوه العشائر وغيرهم من رجالات البلاد .

وثمة وضع اخر اعطى لهذه البيوت واصحابها شيئا من الهيبة والاحترام والرهبة احيانا عند عامة الناس , وهي قرب هذه البيوت من حيث حجمها وطريقة بنائها من القصور الاميرية التي كانت قائمة آنذاك , ان لم يكن بعضها اكبر واضخم من بعض بيوت الامراء , الامر الذي ترك لها هذا الاثر الفعال عند العامة واوهمهم احيانا ان اصحابها قادرون على اتخاذ القرار ومشاركون فيه احيانا .

اللافت للنظر في بيوت العمانيين العتيقة اختلاف طريقة بنائها وعدم وجود محددات ثابتة لهذا البناء , ويعود ذلك حسب تفسير علماء الاجتماع الى اختلاف المرجعيات الثقافية والاجتماعية والجغرافية لاصحاب هذه البيوت من جهة, وللبنائين الذين ازدهرت مهنتهم في تلك السنواتمن جهة اخرى , ويبدو هذا التفسير منطقيا حين نعرف ان عمان بعد ان بدأت تمارس دورها السياسي في عشرينيات القرن الماضي , صارت محط انظار ابناء المدن الاخرى , فامها المهاجرون من السلط والكرك ونابلس والقدس ودمشق وغيرها من الحواضر الذين رأوا في دورها وتطورها وسيلة لتحقيق مصالحهم وغاياتهم السياسية والتجارية والاجتماعية في دولة فتية ذاهبة للتطور بشكل سريع .

وما يثير الاهتمام في كثير من بيوت عمان العتيقة والتي مر على بناء العديد منها اكثر من ثلاثة ارباع القرن , انها ما تزال لليوم تحتفظ بكامل رونقها وبهائها المعماري , وما تزال شاهدة على تاريخ مضى , ولم تخسر الا تلك الحركة التي كانت تدب في غرفها وصالوناتها , حين قرر اهلها هجر الكثير من هذه البيوت والانتقال بحركتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الى فلل حديثة في احياء عمان الراقية المنتشرة على جبالها المتجاورة والمتقابلة .

ولم يغب تاريخ بيوت عمان العتيقة عن ذاكرة امانة عمان ومؤسسات العاصمة الثقافية والاقتصادية , حيث تسعى الامانة الى استملاك عدد من هذه البيوت وتحويلها الى نواد وجاليرهات ومنافذ ثقافية

ويعرف العمانيون وخاصة الشريحة المثقفة منهم واحدا من هذه البيوت وتكاد ارجلهم تقودهم يوميا اليه وهو ما يطلق عليه "دارة الفنون" العائدة لمؤسسة عبد الحميد شومان, التي ذهبت الى شراء هذا البيت القديم والواقع على سفح جبل اللويبدة والمقابل لجبل القلعة التاريخي في العاصمة الاردنية , وقامت بتحويله الى "دارة الفنون" محافظة على بنائه وتراثه المعماري , ومحولة غرفه وصالوناته الى قاعات للعرض التشكيلي ولعرض الافلام السينمائية واستقبال المثقفين في ندوات مختلفة تتناول شتى صنوف الابداع , وفي خطوة مماثلة ذهبت امانة عمان الكبرى الى استملاك واحد من هذه البيوتات العتيقة والذي تعود ملكيته لاحد الامراء والمطل على المدرج الروماني وسط العاصمة , وقامت بتحويله الى "بيت الشعر" الاردني , ليكون مسرحا لنشاطات شعرية وادبية وثقافية متنوعة , وجامعا لمختلف المثقفين في الاردن , وهو يحمل بين جدرانه الكثير من تاريخ المدينة واسرارها والذي يزيد عمر بنائه على السبعين عاما .

ان الباحث في اسرار المدينة يرى في جزئها الشرقي القديم الكثير من الدلائل التي تيسر عمله , في الوقت الذي يكاد فيه جزؤها الغربي يخلو من كثير من هذه الاسرار بسبب حداثة نشأته وبسبب اتساع اطراف المدينة , والتشابك الذي حدث مؤخرا في علاقات ابنائها الاقتصادية والتجارية والثقافية والسياسية , بحيث تحولت في الثلاثين سنة الاخيرة الى واحدة من اجمل العواصم العربية واكثرها نظافة وبهاء , ويحرص ابناؤها على استمرار هذا البهاء الذي تقوده امانة مدينتهم النشيطة .

ان بيوت عمان العتيقة تمثل اليوم جزءا من هوية العاصمة وسمة من سمات معمارها الذي حافظت عليه , وهي علامات فارقة في تاريخ هذه المدينة الحديثة ما تزال ماثلة للعيان في ذاكرة العمانيين ووعيهم وان كان البعض في سالف السنوات ينظر لهذه البيوت او لبعضها بشيء من الريبة والحسد والانبهار , فان الجميع مدعوون اليوم للحفاظ على هوية هذه البيوت ومعمارها , كزء من الحفاظ على تاريخ المدينة وذاكرتها, لكن الشيء الذي لا يغيب عن ذاكرة ووعي اي باحث في تاريخ المدينة وحركة بيوتها وطراز معمارها ان هذه البيوت تختلف من حيث دورها وشكلها عن بيوت قد تكون مشابهة في وظيفتها في مدن اخرى مثل القدس وبغداد ودمشق والقاهرة نتيجة الدور التاريخي لهذه المدن الذي لا تملك مثله عمان , وان كانت اليوم واحدة من العواصم التي يصنع فيها القرار السياسي .

بيوت عمان العتيقة شامة مميزة في جبين عاصمة حديثة وجميلة , تنتشر على سفوحها وقمم جبالها عمارات كثيرة قد تكون متشابهة في طراز معمارها الحجري , لذلك فان مثل تلك البيوت تظل بمثابة لحظة التأمل فيمدينة دخلت الالفية الثالثة وهي في عنفوان شبابها , وتمد اذرعها لتتمدد افقيا وعموديا في الاتجاهات كلها , حتى صارت تقف على مشارف مدن اردنية اخرى كانت المسافة بينها وبين " القرية " عمان قديما تحتاج الى كل ادوات السفر وامتعة الغربة .

سمة اخرى من سمات المدينة عمان تتمثل في الادراج الكثيرة المنتشرة على سفوح جبالها لتصل البيوت ببعضهاالبعض , حين تعجز الشوارع عن اداء تلك المهمة , اذ يخيل لزائر عمان انها مدينة تقف على قدميها باستمرار , وقد اتخذت بعض بيوتها مواقع لها , لم يكن ممكنا وصلها مع باقي اجزاء المدينة الا بواسطة الدرج .

ادراج عمان كما شوارعها , منها الضيق ومنها العريض , القصير والطويل , ذو الاتجاه الواحد وذو الاتجاهين , لكن معظم هذه الادراج يقع اما في قاع المدينة او في احيائها الشرقية, ونادرا ما يجد المتجول في احيائها الغربية الحديثة مثل هذه الادراج .

ومثلما تباهى باحيائها الحجرية الراقية فانها تباهي كذلك بتاريخها الممتد سنوات بعيدة جدا في عمق الحضارة الانسانية , اي منذ كانت "ربة عمون" وفيلادلفيا,وتشهد على ذلك اثار جبل القلعة والمدرج الروماني وسبيل الحوريات وعراق الامير وغيرها من الاثار, التي تعطيها عمقا حضاريا وملامح تاريخية .

واذا كان اليوم اكثر من 650 مسجدا تنادى باسم الله في العاصمة الاردنية فان فيها من المسارح ودور السينما والمنتديات الثقافية ما يؤكد انها مدينة تملك كل اسباب المنافسة في عالم فسيح .

التعليقات